الاقتصاد العالمي على شفا استنساخ تجربة الجائحة

يراقب المحللون باهتمام تسارع وتيرة انتشار الأخطار التجارية والاستثمارية والمالية بفعل الأزمة الروسية – الأوكرانية لتصل إلى كل مفاصل الاقتصاد العالمي في تجربة تعيد إلى الأذهان التكاليف الباهظة التي خلفتها الأزمة الصحية مما يجعل تعافي النمو ينزلق إلى مربع الانكماش مجددا.
لندن - رجح محللون أن يتجاوز رد الفعل القوي من الغرب ضد موسكو حدود الكارثة على روسيا لتصل تداعياته إلى الاقتصاد العالمي والأسواق المالية وتجعل الحياة أكثر خطورة على الجميع من العمال المهاجرين إلى المستهلكين وحتى الأسر الجائعة.
وحتى قبل غزو روسيا لأوكرانيا كان الوضع العام يعاني من ضغوط تحت مجموعة من الأعباء منها ارتفاع معدلات التضخم وتعطل سلاسل التوريد المتشابكة وهبوط في أسعار الأسهم الأمر الذي يضع اقتصاد العالم على شفا استنساخ تجربة الجائحة.
وقال كلاي لوري نائب الرئيس التنفيذي في معهد التمويل الدولي “نحن في الواقع في منطقة مجهولة”. وأضاف في تصريح لوكالة أستوشيتد برس “نعلم أن هناك عواقب لا يمكننا التنبؤ بها”.
وحاليا على الأقل يبدو أن الضرر الذي يلحق بالاقتصاد العالمي بشكل عام ضئيل نسبيا، وذلك فقط لأن روسيا وأوكرانيا ليستا قوتين اقتصاديتين.

كلاي لوري: واقعيا نحن في منطقة مجهولة ولا يمكن التنبؤ بالعواقب
ونظرا لأهميتهما كمصدرين للطاقة والمعادن النفيسة والقمح والسلع الأخرى، فإنهما معا تمثلان أقل من اثنين في المئة من إجمالي الناتج المحلي في العالم.
ومعظم الاقتصادات الكبرى لديها تعرض تجاري محدود لروسيا فقط، فبالنسبة إلى الولايات المتحدة تمثل الصادرات الروسية نحو 0.5 في المئة من إجمالي تجارتها الخارجية قياسا بالصين حيث تبلغ 2.4 في المئة.
وقال آدم سلاتر كبير الاقتصاديين في أكسفورد إيكونوميكس “إن لم تتوسع الأزمة فالتأثيرات على الولايات المتحدة والصين ومعظم العالم الناشئ ستكون محدودة”، حيث يتوقع انخفاضا بنسبة 0.2 في المئة فقط في الناتج المحلي الإجمالي العالمي هذا العام.
ومع ذلك فإن روسيا هي مورد مهم للغاية للنفط والغاز والمعادن، ومن المؤكد أن ارتفاع أسعار هذه السلع سيلحق أضرارا اقتصادية في جميع أنحاء العالم.
وتعتمد أوروبا على روسيا في ما يقرب من 40 في المئة من غازها و25 في المئة من نفطها. وبالنسبة إلى الحكومات الأوروبية زادت الحرب الروسية بشكل كبير من احتمالية حدوث تضخم جامح أو نكسة اقتصادية أخرى أو كليهما.
وقالت أوكسفورد إيكونوميكس في مذكرة إن “الأدلة من الحروب التي تراوحت بين الحرب العراقية – الإيرانية إلى حملة حلف شمال الأطلسي ضد صربيا عام 1999 تشير إلى إمكانية حدوث انهيار مذهل للاقتصاد الروسي بنسبة 50 إلى 60 في المئة”.
ومع اعتمادها على الطاقة من روسيا، باتت اقتصادات الدول الأوروبية في خطر بعد أن ارتفعت أسعار الغاز بنسبة 20 في المئة خلال أسبوع، علاوة على الزيادات السابقة، وهي الآن تقارب ستة أضعاف ما كانت عليه في بداية عام 2021.
وتغذي صدمة أسعار الغاز معدلات تضخم أعلى وتضخم فواتير الخدمات العامة والنتيجة تضرر غالبية الأسر التي لديها أموال أقل لتنفقها، لتتضاءل الآمال في زيادة الإنفاق الاستهلاكي الناتج عن تخفيف قيود الإغلاق.
واعتبر اقتصاديون أن ارتفاع أسعار الغاز تسبب في “تدمير الطلب” بين المؤسسات الصناعية مثل صانعي الأسمدة الذين يستخدمون الكثير من هذه المادة، وقد أدى ذلك الآن إلى خفض الإنتاج مما يدفع المزارعين أكثر إلى تشغيل الآلات وشراء الأسمدة.
وقال هولغر شميدنغ كبير الاقتصاديين في بنك بيرنبرغ “قد يؤدي التراجع عن ارتفاع الأسعار وتأثير الثقة السلبي إلى انخفاض نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي في منطقة اليورو من 4.3 إلى 3.7 في المئة لعام 2022”.
وأدى التعافي القوي غير المتوقع في العالم من الركود الوبائي إلى سباق بين الشركات للعثور على ما يكفي من المواد الخام والمكونات لإنتاج السلع لتلبية الطلب المتزايد من المستهلكين.
وتسبب الاكتظاظ في المصانع والموانئ في حدوث نقص وتأخير في عمليات الشحن مما انعكس في ارتفاع الأسعار، ولكن الآن يمكن أن تؤدي الاضطرابات في الصناعات الروسية والأوكرانية إلى تأخير أي عودة إلى الظروف الطبيعية.

ويشير مارك زاندي كبير الاقتصاديين في وكالة موديز إلى أن روسيا وأوكرانيا تنتجان معا 70 في المئة من أضواء النيون في العالم، وهو أمر بالغ الأهمية في صناعة أشباه الموصلات.
وقال إن “هذا مقلق بشكل خاص لأن العالم وشركات صناعة السيارات على وجه الخصوص يعانون بالفعل من نقص في الرقائق”.
وعندما استولت روسيا على شبه جزيرة القرم قبل ثماني سنوات ارتفعت أسعار النيون بنسبة 600 في المئة، رغم أن زاندي يؤكد أن صانعي الرقائق قاموا منذ ذلك الحين بتخزين النيون والبحث عن بدائل للإمدادات الروسية.
والأمر لا يقف عند ذلك الحد، فالبلدان لوحدهما يزودان العالم بنحو 13 في المئة من إمدادات التيتانيوم المستخدم في صناعة طائرات الركاب و30 في المئة من البلاديوم الذي يستخدم في صناعة السيارات والهواتف المحمولة وحشوات الأسنان.
كما تعتبر روسيا أيضا منتجا رئيسيًا للنيكل المستخدم في إنتاج بطاريات السيارات الكهربائية والصلب.
وقالت فانيسا ميلر الشريكة في فولي آند لاردنر المتخصصة في سلاسل التوريد إنه “من المستحيل على سلاسل التوريد اللحاق بالركب”.
والمشاكل لن تطال فقط الأوروبيين أو حتى بلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وأيضا قارة أفريقيا، إذ سيلحق الصراع والعقوبات ضررا بجيران روسيا في آسيا الوسطى.

فانيسا ميلر: من المستحيل على سلاسل التوريد الآن اللحاق بالركب
ومع تقدم قوتها العاملة في السن تحولت روسيا إلى العمال المهاجرين من دول مثل أوزبكستان وطاجيكستان وباتت أسر هؤلاء العمال تعتمد على الأموال التي يرسلونها.
ووفقا للبنك المركزي الروسي تجاوزت التحويلات في ذروة الأزمة الصحية من روسيا إلى أوزبكستان نحو 3.9 مليار دولار وإلى قيرغيزستان ملياري دولار.
وكتب غافن هيلف الخبير بمعهد السلام لشؤون آسيا الوسطى هذا الأسبوع يقول إن “الضغط على الروبل والقيود المصرفية على الأجانب ستتسبب في انهيار سوق العمل الروسي على المدى الطويل وسيكون لها تأثير اقتصادي فوري وعميق على آسيا الوسطى”.
ويأتي الإجهاد في مسألة الإمدادات الغذائية كأحد أبرز المشاكل التي ستؤثر على النمو العالمي هذا العام حيث تستحوذ روسيا وأوكرانيا معا على حصة تقدر بنحو 30 في المئة من صادرات القمح العالمية و19 في المئة من الذرة و80 في المئة من زيت عباد الشمس.
وتشير بعض المعطيات إلى أن الكثير من شحنات القمح الروسية والأوكرانية في شكل مساعدات تذهب إلى الدول الفقيرة غير المستقرة مثل اليمن وليبيا.
ويمكن أن يؤدي التهديد الذي تتعرض له المزارع في شرق أوكرانيا وقطع الصادرات من موانئ البحر الأسود إلى خفض الإمدادات الغذائية فقط عندما تكون الأسعار في أعلى مستوياتها منذ عام 2011 وتعاني بعض البلدان من نقص في الغذاء.
ووصفت آنا ناغورني أستاذة الإدارة بجامعة ماساتشوستس أمهيرست العواقب بأنها “مقلقة للغاية”. وقالت إن “القمح والذرة والزيوت والشعير والدقيق لها أهمية قصوى للأمن الغذائي، ولاسيما في الأجزاء الفقيرة من العالم”.
ومع إغلاق الموانئ والمطارات وخطوط السكك الحديدية تساءلت ناغورني “من سيقوم بعملية الحصاد؟ من سيقوم بالنقل؟”.
وتتزامن الأزمة الراهنة في شرق أوروبا مع لحظة عالية المخاطر بالنسبة إلى التضخم الذي ارتفع بشكل مفزع منذ بداية 2022 والذي كان نتيجته في الغالب للانتعاش القوي غير المتوقع للاقتصاد.
ويرى الخبراء أن على البنوك المركزية العالمية أن تزن الضغوط التضخمية المكثفة مقابل خطر أن تؤدي الأزمة الأوكرانية إلى إضعاف الاقتصادات وخاصة الضعيفة منها بشكل أكبر.