الاقتصاد التونسي يدخل مرحلة حاسمة لكسب ثقة المانحين الدوليين

تراقب الأوساط الاقتصادية في تونس عن كثب دخول البلاد معركة حاسمة في مسار طويل لإعادة بوصلة الحياة إلى الناس والأعمال لإنعاش الاقتصاد، أملا في كسب ثقة المانحين الدوليين لتمويل برنامج الإصلاح الذي لا يزال يشق طريقه بخطى متثاقلة رغم الجهود المبذولة.
تونس- تسود مناقشات بين المحللين والخبراء منذ فترة حول مدى قدرة تونس على انتزاع ثقة من المانحين الدوليين وخاصة صندوق النقد الدولي بعد الخطوات التي قطعتها السلطات لتعديل بوصلة الاقتصاد الذي تعتريه أزمات متنوعة.
وبدأت تونس مرحلة سياسية جديدة بعد استفتاء الشهر الماضي واعتماد دستور جديد للبلاد، في وقت تواجه فيه البلاد أزمة اقتصادية تحتاج للخروج منها إلى استعادة الدول والمؤسسات المالية الدولية للثقة تجاه الاقتصاد المحلي.
ويرى محللون تغيرا واضحا في مواقف المؤسسات المالية الدولية من الأزمة الاقتصادية للبلاد، حيث عبّر مسؤولو صندوق النقد عن تقدّم “جيّد” للمفاوضات مع الجانب التونسي بشأن اتفاق حول فتح خط ائتمان جديد.
وقالت وكالة فيتش للتصنيف الائتماني في أحدث بيان لها مؤخرا إن “تونس ما زالت تحظى بالدعم الدولي بعد التصويت بالموافقة على مشروع الدستور”.

رضا الشكندالي: الضامن الوحيد لاستمرارية دعم الصندوق هو سعيّد
وتوقع خبراء الوكالة أن تتوصل تونس إلى اتفاق مع صندوق النقد في النصف الثاني من هذا العام، دون الحصول على دعم الاتحاد العام التونسي للشغل، أكبر نقابة عمالية في البلاد، نظرا إلى أن الدستور يوفر أساسا أقوى لتحرك تشريعي.
لكن ثقة المؤسسات المالية والمانحين لن تكون كافية لاستئناف نمو قطاعات الاقتصاد المحلي، إذ ما يزال يتعين على الحكومة التونسية حل أزماتها مع النقابات المحلية كأولوية.
وتعاني تونس من تضخم في الديون وارتفاع كبير في أسعار الاستهلاك بسبب الأزمات الخارجية رغم أن المسؤولين يعقدون آمالا كبيرة على نهوض السياحة وتدفق رؤوس الأموال الأجنبية وإعطاء دفعة للزراعة لتأمين قوت التونسيين في هذه المحنة.
ويرى رضا الشكندالي، أستاذ الاقتصاد بالجامعة التونسية أن الضامن الوحيد لاستمرارية برنامج صندوق النقد مع الحكومة هو الرئيس قيس سعيد الذي يقود جهودا إصلاحية لإخراج الاقتصاد من أزماته المزمنة.
ونقلت وكالة الأناضول عن الشكندالي قوله إنه “حتى وإن شاركت الأحزاب السياسية في الانتخابات التشريعية وفازت، فلن يكون لها أي دور في تحديد اسم الوزير الأول والحكومة”.
وأشار إلى أن صندوق النقد طلب من قيس سعيد الاطلاع على مسودة الدستور الجديد، قبل عرضه على الاستفتاء، وتم الاتفاق على أنه في صورة الموافقة على الدستور عبر الاستفتاء فإنه سوف يمضي على الاتفاق.
ويترقب التونسيون إجراءات، قد تكون قاسية، على شكل برامج إصلاح اقتصادي تم التوافق عليها بين الحكومة وصندوق النقد، تمهد للموافقة على قرض مالي. وتوقع الشكندالي أن يمضي الصندوق على مبلغ ملياري دولار وليس أربعة مليارات دولار كما أشيع في البداية، ما يعني 6 مليارات دينار ستدخل إلى خزينة الدولة.
وقدرت وزارة المالية حجم الدين العام للبلاد في نهاية مايو الماضي بنحو 107.6 مليار دينار (34.1 مليار دولار)، أي ما يعادل نحو 79.5 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، مقابل 98.3 مليار دينار (31.2 مليار دولار) قبل عام.
ومن المرجح أن يصل الدين العام إلى قرابة 114.1 مليار دينار (36.2 مليار دولار) بحلول العام المقبل، أي 82.6 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي.

عبدالجليل البدوي: تمويل الصندوق لن يحل الأزمة لكن يسّهل دخول أسواق الدين
لكن الشكندالي، اعتبر أن توقيع اتفاق مع صندوق النقد “سيفتح الباب أمام المؤسسات الدولية الأخرى كالبنك الأفريقي للتنمية، وبنك الإنشاء والتعمير الأوروبي للحصول على تمويلات جديدة”.
وتحتاج تونس قروضا خارجية بمقدار 12.6 مليار دينار (4 مليارات دولار) لتمويل عجز ميزانية 2022، مقارنة بنحو 12.1 مليار دينار (3.84 مليار دولار) في قانون المالية التكميلي لعام 2021.
ومع فرضية حدوث انتخابات رئاسية مبكرة وعدم نجاح قيس سعيّد في مساعيه الإصلاحية، فإن الضامن الوحيد لاستمرارية برنامج صندوق النقد بحسب الشكندالي سيضمحل، وقد يأتي حزب آخر قد يغيّر حتى في الدستور.
وتضررت المالية العامة للبلاد جراء سوء إدارة الحكومات المتعاقبة خلال العشرية الماضية، ناهيك عن التداعيات الكارثية التي خلفتها الجائحة على مجمل النشاط الاقتصادي ثم آثار الحرب في أوكرانيا، والتي تجلت في تدهور القدرة الشرائية للناس بشكل غير مسبوق.
وتواصل ارتفاع نسبة التضخم في يوليو الماضي لتصل الى مستوى 8.2 في المئة بعد أن كانت 8.1 خلال الشهر السابق و7.8 خلال مايو الماضي.
وبحسب معهد الإحصاء يعود هذا الارتفاع بالأساس إلى تسارع وتيرة ارتفاع أسعار الغذاء من 9.5 في المئة في يونيو إلى 11 في المئة بنهاية يوليو.
كما زادت أسعار الأثاث والتجهيزات والخدمات الـمنزلية من 9.7 في المئة إلى 10.6 في المئة، وأسعار خدمات الترفيه والثقافة من 6.3 في المئة إلى 7.5 في المئة.
ويؤكد عبدالجليل البدوي الخبير الاقتصادي أن هناك تغيرّا كبيرا في مواقف المؤسسات المالية الدولية تجاه تونس وذلك لأسباب عديدة، أبرزها الحفاظ على الحد الأدنى من الاستقرار في المنطقة.
وقال البدوي للأناضول إن “عدم الاستقرار يعني انتخابات جديدة، والوضع الآن لا يحتمل، باعتبار الموقع الجيوستراتيجي الهام للبلاد”.
وأشار إلى أن الموقع الإستراتيجي لتونس أصبح أكثر أهمية من قبل مع الأزمة الطاقية الحالية، إذ تقع بالقرب من شريان الغاز الجزائري نحو أوروبا، وبجانب ليبيا التي استعادت إنتاج النفط لمستوياته الطبيعية عند نحو 1.3 مليون برميل يوميا.
تونس تحتاج قروضا خارجية بمقدار 4 مليارات دولار لتمويل عجز ميزانية 2022
ومن الأسباب الأخرى، الظروف الاستثنائية الأخيرة والمتمثلة في الأزمة الصحية العالمية والحرب الروسية – الأوكرانية، وهو ما عمّق الاختلالات المالية في تونس باعتبار جزء كبير منها ناتجا عن عناصر خارجية.
ووفق البدوي فإنه “إذا تواصل عدم الاستقرار في تونس، فإن في ذلك تهديدا لمصالح هذه المؤسسات وأيضا سيفتح عليها أفواجا من الهجرة السرية ويزيد من مشاكل أوروبا”.
وأوضح أن الاتفاق مع الصندوق لن يحل المشكلة المالية، ولكنه سيسّهل الدخول في السوق المالية العالمية، التي بدورها تعاني من نقص شديد في السيولة، بسبب تبعات كورونا والحرب الروسية الأوكرانية وارتفاع التضخم.