الاستثمار المفرط في الأبناء أولى مراحل الاحتراق النفسي للآباء

آباء وأمهات اليوم يبحثون عن الكمال في تربية أبنائهم إلى درجة أنهم يعيشون ضغطا مستمرا تحت أوامر المجتمع الذي يعتبر أن الأبوة يجب أن تكون مثالية.
الأربعاء 2020/10/07
اهتمام مفرط

يشعر عدد كبير من الآباء والأمهات بالإنهاك الشديد وعدم القدرة على القيام بأي شيء وليس لديهم الجهد الكافي للاستمرار في متطلبات الحياة اليومية، بعد أن استنزفوا كل طاقتهم في سبيل تربية أبنائهم، وينتهي بهم الأمر إلى الاحتراق النفسي.

 لندن – يلجأ الكثير من الآباء إلى الإفراط في التركيز ومراقبة أولادهم والاهتمام الزائد بهم، غير أن الخبراء حذروا من أن استثمار الآباء المفرط في الأبناء قد يؤدي إلى إصابتهم بالاحتراق النفسي.

وأكدوا أن مستقبل الأبناء من أكثر الأمور التي تثقل كاهل الآباء والأمهات، وتستحوذ على تفكيرهم، ولا يكف أولياء الأمور عن طرح معاناتهم وتجاربهم في هذا الشأن، فالبعض يرون أن توفير المنزل  والرصيد المصرفي من أهم مهام الآباء، فتراهم يتجنبون الإنفاق على الكثير من الجوانب الحياتية لتحقيق هذا المبتغى والغاية. ويرى البعض الآخر أن الاستثمار في الأبناء هو الأجدى والأنفع لهم، وليس الاستثمار لهم.

وأوضحوا أن الأفضل هو الإنفاق على الأبناء أنفسهم، وتكوين مستقبلهم، ومساعدتهم على تنمية قدراتهم، ليس على مستوى الدراسة فقط، بل في كل المجالات.

وأشاروا إلى أن الكثير من الآباء والأمهات يحاولون أن يقوموا بدورهم تجاه أبنائهم على أكمل وجه، وأن يكونوا آباء جيدين لهم، مثلما يتمنون أن يكون أبناؤهم صالحين، ولكن أحيانا يتحول الأمر إلى هوس بالمثالية والكمال مما يصيبهم بالاحتراق النفسي.

وأكدت الكاتبة والباحثة التربوية ماري رمسيس أن فكرة الأم المثالية هي أكذوبة كبيرة، وما يحتاجه الأبناء ليس شخصا خارقا وإنما هو أب أو أم جيدان ومحبان وسعيدان.

وأوضحت أن الأب أو الأم المثاليين يكونان من الشخصيات الدقيقة جدا بحيث يريدان كل شيء جيدا وصحيحا بنسبة 100 في المئة ويطبقان هذا على الابن، إذ يريدان أن يكون سلوكه مثاليا ودرجاته مثالية ونظافته وكل شيء مكتملا دون أي نسبة خطأ، حتى في الجوانب الاجتماعية يفرضون عليه أن يتصرف بالطريقة التي يرونها مثالية.

وبينت أنه بسبب هذا السعي للكمال يكون الآباء مجهدين جدا ومحملين طوال الوقت بالكثير من الأشياء، وبالتالي يقومون بكل شيء تحت الضغط ولا يمكنهم أن يرسموا السعادة على وجوه أبنائهم، كما أنهم يكونون عاجزين عن الاستمتاع بالحياة.

وأكد الدكتور عبدالهادي الكاسمي، اختصاصي نفسي مرافق للطفل والمراهق، أن الاحتراق النفسي في وقت معين يفقد الأب أو الأم أي طاقة ليستثمراها في ابنهما. وأوضح أن احتراق الآباء والأمهات نفسيا لا يحصل بين عشية وضحاها، بل تسبقه مراحل وطريق يختاره الأبوان ويؤدي بهما إلى هذا الوضع.

وقال الخبير المغربي إن بداية هذا الطريق تكون بالاستثمار المفرط، حيث يكون حرص الآباء شديدا على الوصول إلى ما يعتقدون بأنه مثالي، فتدور كل حياتهم على راحة أطفالهم وتلبية كل متطلباتهم مع الحرص على عدم الوقوع في الأخطاء التي ارتُكتبت في تربيتهم من قبل آبائهم، وعلى الرغم من كل الجهد الذي يبذلونه يشعرون أنهم مقصرين ويجب أن يقدموا أكثر لأبنائهم.

وأوضح الكاسمي أنه في المرحلة الموالية، يشعر الأبوان بالإحباط، عندما يلاحظان أن المجهود الذي بذلاه لم يعط النتيجة التي كانا ينتظرانها، كما أن الأبناء لا يعترفون بالتضحية التي قُدّمت لأجلهم، وفي هذه الحالة، وحتى لا يضيع الاستثمار، يقرران مضاعفة الجهود على حساب راحتهما وحياتهما الخاصة، ويصبح الأبناء مركز الكون بالنسبة لهما، وفي هذه المرحلة يشعران بأنهما استنفدا كل طاقاتهما، ويبدأ جلد الذات وتأنيب الضمير.

ولفت إلى أن حياة الآباء تتأثر بشكل كبير عند بلوغ هذه المرحلة، حيث يسود التوتر داخل الأسرة، وتصبح العلاقة الزوجية متشنجة، ويشعر الأبوان بأنهما ضحيتان.

الهوس بتمكين الصغار من عيش حياة مثالية يتعب الوالدين
الهوس بتمكين الصغار من عيش حياة مثالية يتعب الوالدين

ولفتت مورا ميكولاجتشاك أستاذة علم النفس في جامعة لوفان الكاثوليكية في بلجيكا إلى أن نسبة 5 إلى 8 في المئة من العائلات تعاني من الاحتراق النفسي بسبب الإرهاق الأبوي، لافتة إلى أن احتراق الوالدين نفسيا يكون سببه متلازمة الإرهاق الجسدي والنفسي. كما أفادت بأن الآباء وأمهات اليوم يبحثون عن الكمال في تربية أبنائهم إلى درجة أنهم يعيشون ضغطا مستمرا تحت أوامر المجتمع الذي يعتبر أن الأبوة يجب أن تكون مثالية.  وعبر الآباء والأمهات عن مخاوفهم من التأثير المؤذي للتباعد العاطفي مع أطفالهم، والإساءة اللفظية، والشعور بالذنب، إلى درجة الرغبة في قتل أنفسهم أو المغادرة دون ترك عنوان.

وتوصلت دراسة قام بها الأستاذ كريس سيجرين وفريقه البحثي في جامعة ولاية تكساس وجامعة نبراسكا بالولايات المتحدة، إلى معرفة السبب وراء طريقة تربية الآباء تلك، حيث أجرى سيجرين ومعاونوه دراستين.

وفي الدراسة الأولى طُلب من 302 من الآباء الشباب تقييم سلسلة من العبارات المصممة لقياس مستويات مشاركتهم في حياة أبنائهم، وفي الدراسة الثانية، أجرى الباحثون مسحا على 290 زوجا من الآباء والشباب، واستجاب الشباب إلى العبارات المصممة لقياس تصورهم لذلك الأسلوب. وأضح سيجرين قائلا “الاهتمام المفرط هو سمة نفسية تتمثل في الرغبة في أن تكون مثاليا، وتريد النجاح، والرغبة في الحصول على أوسمة إيجابية يمكنك الإشارة إليها”، مضيفا أن الآباء الساعين لتلك الطريقة قد يرون نجاح أطفالهم على أنه انعكاس لهم، وقد ينخرطون في الإفراط في تربية الأبناء في محاولة لتحقيق نتائج مثالية.

وأكد أن الآباء يريدون أن يعيشوا النجاح بشكل غير مباشر من خلال إنجازات أطفالهم، ويريدون أن يروا أطفالهم يحققون ذلك لأن ذلك يجعلهم يبدون بمظهر جيد.

وشدد الخبراء على ضرورة تقديم الأب أو الأم الدعم العاطفي لبعضهما، ويستمع كل طرف لمشاغل الطرف الآخر، ويعبر عن تفهم المصاعب التي يمر بها، ويشعره بالتعاطف وتقدير الدور الذي يقوم به، منبهين إلى أن هذه الخطوات تعتبر أمرا حيويا جدا للصحة النفسية، ومن دونها يكون الاحتراق النفسي نتيجة لا مفر منها.

21