الارتحال إلى المستقبل لحل مشكلات الراهن
أُجلّ مفكرينا لسِنهم فأربأ بنفسي أن أجترئ عليهم، وأجلّهم لتجربتهم وعطائهم الفكري الغزير، ولكني لا أمنع نفسي من مناقشة ما يطرحون، وحتى الاعتراض عليه إذا ما بدا لي فيه ما لا يستقيم، من وجهة نظري على الأقل، وإلا كنت أشبه بصبيّ يشرب كلام مؤدبه شربا، لا يملك حتّى حق رفع الإصبع. أقول هذا وفي البال رد متشنج للمفكر المصري الكبير مراد وهبة على جملة من المقالات التي تناولت بالنقد ما ورد في حديث له كان أدلى به لمجلة "الجديد"، لا سيّما مقالتي، حيث خصني، وإن لم يذكر اسمي، بفقرة جاء فيها أني أردّ على شيء متخيّل عندي، وأني لم أقرأ شيئا مما كتب.
وفي اعتقـادي أني لسـت ملـزمـا بقـراءة كتبه كلها للاعتـراض على رأي صرح به. فما قاله واضح وضـوح الشمس في رابعـة النهار، لا أحتاج في فهمه إلى سابق أو لاحق "عندما يكون الوضع القائم في أزمة يجب استدعاء الـوضع القادم للتفكير في حلول لهذه الأزمة. وبغياب الوضع القادم أو الرؤية المستقبلية يظل الوضع القائم في حالة أزمة، وإن التمرد على الأزمة لن يستطيع تجاوز الوضع القائم".
وإذ أثنيـت على دعوتـه إلى تكويـن رؤيـة مستقبلية، أضفت أنـه لا يمكن بحـال أن نستغني عـن التخطيـط للمستقبـل انطلاقـا من الحاضر، عـن طريـق علاج الوضـع القائم حتى يكون قـاعدة لارتيـاد المستقبـل وليس العكس، فمن لا يملك ثروة مادية ولا ثروة بشرية متعلمة بإتقان لا يمكن أن يحلم بغزو الفضاء، لمجرد أنه يتوق إلى تحقيقه، لا سيما أن المستقبل أفق انتظار قد لا يحدث، وليس من الحكمة أن نتوسل بما لا نثق في حدوثه لحل أزمات الراهن.
ومضى في رده يذكرنا بما لا يحتاج إلى إنعام النظر، وهو أن الزمن يتكون من ماض وحاضر ومستقبل، وأن الماضي كان مستقبلا سحبت منه السمة المستقبلية وأصبح ماضيا. ولكن الفرق عندي أن الماضي هو حاضر عشناه، فيما المستقبل لا يزال في علم الغيب.
وأقصى ما يمكن أن نفعله هو أن نستشرفه ونخطط له انطلاقا من معطيات الحاضر، على غرار ما فعله المفكر الفرنسي جاك أتالي في كتابه "تاريخ مصغّر للمستقبل"، حيث يرسم الخطوط البيانية الواضحة لما سوف يكون عليه المستقبل في الأعوام الستين القادمة، انطلاقا من المعطيات الحالية، الثابت منها والمتحول، ومن الحراك الذي يشهده العالَم في شتى المجالات، بعد أن صارت العولمة واقعا ملموسا، تلم أطراف الأرض بعضها إلى بعض.
كاتب من تونس مقيم بباريس