الاحتلال والقيم اليهودية

نُظر منذ عام 1967 للصراع الإسرائيلي – الفلسطيني ولمناقشته إلى حد كبير من منظور مختلف القضايا المتصارع عليها حول الأرض والأمن والقدس واللاجئين الفلسطينيين والمستوطنات والحقوق التاريخية. وفي كل من هذه القضايا انتهكت تصرفات إسرائيل بشكل صارخ حقوق الإنسان الأساسية للفلسطينيين، وخلقت أزمات إنسانية على جميع المستويات. تصرفات إسرائيل وآثارها المدمرة تتعارض تمامًا مع القيم اليهودية. فلو تم اتباع هذه القيم في كل لقاء وبذل الجانبان جهودا صادقة للتوصل إلى اتفاق سلام، لكان الصراع قد تم حله منذ عقود، وكان من الممكن تجنب الكوارث الإنسانية التي لحقت بالفلسطينيين.
إن دائرة العنف المفرغة التي تصاعدت، كما رأينا في الأيام الأخيرة في جنين بالضفة الغربية، ستستمر في التفاقم، خاصة بسبب الإحساس باستحقاق فعل ذلك الذي تشعر به الحكومة الإسرائيلية الحالية بشكل خاص والمستوطنون.
إن قتل أربعة مستوطنين إسرائيليين لا يمكن تبريره تحت أي ظرف من الظروف. لكن بالنسبة للجناة، كان هذا عملا انتقاميا لمقتل العديد من الفلسطينيين في الأيام السابقة. شعر المهاجمون الفلسطينيون أنه لم يتبق لهم خيار سوى القتال من أجل حريتهم – من أجل أحلامهم وتطلعاتهم – مفضلين الموت كشهداء بشرف على العيش في عبودية لبقية حياتهم.
وعلى الرغم من إدانة بنيامين نتنياهو وقادة المعارضة للمذابح التي ارتكبها المستوطنون في أعقاب ذلك، إلا أن المستوطنين كانوا يستمعون طوال الوقت لأمثال الوزراء إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش الذين صرّحوا بشكل علني مرارا وتكرارا بأنه يمكن الاستغناء عن حياة أي فلسطين.
وهكذا، فإن تجريد الفلسطينيين من كل ما يملكون وإضرام النار في العشرات من المنازل والسيارات والتدمير الوحشي المقصود للممتلكات تحت أنظار الجنود الإسرائيليين الذين يعاينون ذلك بلا مبالاة ورباطة جأش، هو سخرية من هذه القيم اليهودية التي يتظاهر المسؤولون الإسرائيليون بدعمها بشدة.
هل تجتاز هذه الأعمال الوحشية المروعة التي تحدث بشكل روتيني ولا يتم انتقادها "اختبار عباد الشمس" للقيم اليهودية؟
والمفارقة هنا هي أنه بينما أدان بعض المسؤولين المذابح، فقد نسوا بسهولة أن إسرائيل على مدى عقود تنتهك بانتظام القيم اليهودية من خلال التصرف بشكل غير إنساني ضد الفلسطينيين باسم الأمن القومي. تجاهلت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة الرواية التاريخية لبقاء اليهود على مر القرون التي تُعزى إلى تمسكهم الجماعي بهذه القيم والتزامهم بعدم التخلي عنها أبدا، لأنها شكلت الأساس الديني والأخلاقي لبقاء اليهود المستمر.
تشمل هذه القيم اليهودية الاهتمام بالغير والتعاطف معهم وعدم إظهار اللا مبالاة تجاه المحتاجين ومحبة الجيران والتسامح والرحمة وإلباس العراة والتمسك بالحق في العدالة وملكية الآخرين وتحرير المظلومين ومشاركة خبزك مع الجياع وإيواء المتشردين واحترام حق كل إنسان في الحياة. وأخيرا، هناك “تيكوم أولام”، وهو مصطلح يُترجم إلى “إصلاح العالم” لاستعادته إلى الطريقة التي صنعه بها الخالق، أو جعله أفضل للجميع.
كيف توائم الحكومات الإسرائيلية هذه القيم مع اقتلاع أشجار الزيتون التي تحرم أصحابها من مصدر رزقهم الأساسي وتجبرهم على العيش على الهبات والإذلال؟ مع الممارسة المروعة المتمثلة في حبس الشباب في الغالب لشهور دون توجيه تهم إليهم بارتكاب أي جرائم، ومع المداهمات الليلية المتكررة التي تخيف الصغار وتختطف الآباء والأبناء الكبار وانقطاع أخبارهم عن أهلهم أحيانا لشهور؟
وكيف تربط القيم اليهودية بالإخلاء القسري الروتيني للفلسطينيين من منازلهم والأعمال الوحشية لهدم المنازل بحجة بنائها دون ترخيص، أو لأن الحكومة قررت إعادة تقسيم المنطقة لسبب غامض، وتركهم بلا مأوى وفريسة لليأس، أو ضم المزيد من الأراضي للتدريب العسكري وترك العديد من العائلات بدون الأرض التي كانت مصدر رزقهم؟
هل تجتاز هذه الأعمال الوحشية المروعة التي تحدث بشكل روتيني ولا يتم انتقادها “اختبار عباد الشمس” للقيم اليهودية؟ في الواقع، انتهكت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة بقيادة نتنياهو على وجه الخصوص بشكل فاضح ووقح كل قيمة كان اليهود يحتفظون بها لقرون. لكن بعد ذلك، تُرك الأمر للإسرائيليين والمسؤولين اليمينيين المتعطشين لتبرير هذه الإجراءات العقابية بحجة الأمن القومي.
حكومات نتنياهو المتعاقبة خانت ما وقف وعانى اليهود منه على مر القرون
في الواقع، هذه الإجراءات اللا إنسانية مصممة ليس فقط لإجبار الفلسطينيين على الخروج من أراضيهم، ولكن أيضا للتحريض المتعمد على المقاومة الفلسطينية العنيفة والتي تستخدمها الحكومة بدورها كذريعة لاتخاذ إجراءات انتقامية ضد الفلسطينيين وتبرير استمرار الاحتلال.
وواصلت حكومة نتنياهو مخططها الشرير لجعل حياة الفلسطينيين لا تطاق حتى يغادروا منازلهم ومجتمعاتهم بدافع القنوط واليأس، وهي محاولة لتطهير الأرض من جميع الفلسطينيين لينتقل الإسرائيليون إليها. هؤلاء المسؤولون والملايين من الإسرائيليين اليمينيين يتغاضون بهدوء عن هذه المذابح والانتهاكات الجسيمة ببساطة لمجرد أنها تخدم هدفهم طويل الأجل المتمثل في السيطرة على جميع الأراضي من البحر المتوسط إلى نهر الأردن.
وعلى العكس من ذلك، لو طبقت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة القيم اليهودية حقا، لكانت قد أنهت الإجراءات القاسية التي اتخذتها والتي أدت إلى حدوث أزمات إنسانية ضخمة.
يشعر كل فلسطيني، أينما يعيش، بكل حدث مأساوي كما لو كان قد اختبره بنفسه، الأمر الذي يقوي فقط عزم الفلسطينيين على مواجهة وحشية الإسرائيليين وبطشهم بالانتقام من خلال أعمال الإرهاب.
وأكثر من أي حكومة سابقة، فإن هذه الحكومة الحالية الوقحة التي لا تعرف الخزي والعار تسخر بشكل خاص من القيم اليهودية. ولكن بعد ذلك، يحاول نتنياهو ووزراؤه الدجالون تجاوز الخط الفاصل بين الصواب والخطأ من خلال التشدق بأقل من مجرد كلام عن المذابح العنيفة.
ومن غير المفهوم أننا نحن اليهود، الذين عانينا من مذابح لا تعد ولا تحصى على مر القرون، نسمح للمستوطنين الذين يعيشون على أرض مغتصبة من الفلسطينيين بارتكاب مثل هذه الأعمال المشينة مع الإفلات من العقاب.
الأمر متروك الآن للجمهور الإسرائيلي للمطالبة بإنهاء 56 عاما من الاحتلال والالتزام بالفرضية الكامنة وراء إنشاء إسرائيل
اسمحوا لي بأن أوضح مدى عمق قيام حكومة نتنياهو هذه بالحط من قدر القيم اليهودية وتلطيخها:
في ديسمبر، اعتقل ابن لأم وأب فلسطينيين وسجن بعد اتهامه بتنفيذ هجومين على حافلتين على مستوطنين، الأمر الذي أسفر عن مقتل اثنين. وفي غضون أيام معدودة، جاء مسؤولون أمنيون إسرائيليون إلى منزل العائلة، حيث لم يعد يعيش الفتى، لتخطيط المنزل لغرض تدميره. هذه هي السياسة الإسرائيلية الدائمة لهدم منزل أي إرهابي فلسطيني يقتل إسرائيليا لردع آخرين عن ارتكاب جريمة مماثلة.
كان من المقرر هدم المنزل في فبراير، فبعد طلبات الاستئناف الفاشلة، وعلى الرغم من حقيقة أن الابن لا يزال مسجونا دون أي مؤشر على الإفراج الوشيك، جاء الجيش الإسرائيلي إلى المنزل الشهر الماضي وسوّاه بالأرض. والدا المشتبه به وأخواته الأربع، الذين لم يشتبه في ارتكابهم أي مخالفات أو اتهام أي منهم بارتكاب أي خطأ، يجدون أنفسهم الآن يحدقون في كومة من الأنقاض التي كانت قبل يوم واحد فقط منزلا دافئا. وبينما تستمر هذه الممارسة اللا إنسانية مع حكومة نتنياهو الحالية ووزير الأمن القومي بن غفير، فإن محنة الفلسطينيين تزداد سوءا ولا تلوح في الأفق نهاية لها.
بالنسبة للوالدين، لم يكن ابنهما إرهابيا، كان شابا لديه أحلام وتطلعات. سألت أولئك الإسرائيليين الذين يتحدثون عن القيم اليهودية بكل فخر، هل تدمير منزل عائلة وأربعة أطفال يتوافق مع القيم اليهودية عندما يكون جوهر هذه القيم متجذرا في التعاطف والاهتمام ومحبة وشفاء إنسان آخر؟
ربما ينبغي على بن غفير وسموتريتش، اللذين يفخران بكونهما يهوديين متدينين، إلقاء نظرة أخرى على ما يعلمه الكتاب المقدس العبري عن الجريمة والعقاب. يقول كتاب حزقيال (18:19 NIV) “لن يؤخذ الطفل بذنب والده، ولن يؤخذ الوالد بذنب طفله. يُحسب لهما بر الأبرار، ويُحاسب عليهما شر الأشرار”. لماذا إذن ترتكب الحكومة التي تدعي أنها تسترشد بالقيم اليهودية والأخلاق الدينية مثل هذه الجرائم العارية التي تسخر من هذه القيم المكرسة في “تناخ”؟
لكن دع الأمر إلى سموتريتش الذي صرح بلا خجل بأن “محاولة خلق تكافؤ بين الإرهاب العربي القاتل والردود المدنية الإسرائيلية، مهما كانت خطيرة، هو خطأ أخلاقي وخطير على المستوى العملي”. دعني أخبرك، سيد سموتريتش، ما هو المستوى العملي.
حكومة نتنياهو واصلت مخططها الشرير لجعل حياة الفلسطينيين لا تطاق حتى يغادروا منازلهم ومجتمعاتهم بدافع القنوط واليأس
الطريقة التي تعامل بها الحكومة الإسرائيلية الفلسطينيين لا تفعل شيئا سوى بذر بذور الهجوم الإرهابي التالي ضد إسرائيليين أبرياء، والمذبحة التالية ضد فلسطينيين أبرياء أيضا، الحريق الهائل القادم بين الإسرائيليين والفلسطينيين الذي سيودي بحياة المئات، إن لم يكن الآلاف من الرجال والنساء والأطفال الأبرياء على كلا الجانبين. هذا هو المستوى العملي.
يجب على الإسرائيليين أن يتخذوا قراراتهم. هل يريدون العيش في دولة احتلال، دولة فصل عنصري تقوم بشكل روتيني على قمع الآخرين، والدعس على كرامتهم وحرمانهم من حقوقهم الإنسانية الأساسية بينما تثير العنف وتنشر الخوف وعدم اليقين ولا تعرف ما قد يأتي به الغد؟ أم إنهم يريدون العيش في البلد الذي كانوا يتوقون إليه منذ قرون، حيث يتم السعي لتحقيق العدالة بقوة، حيث يمكن لكل يهودي، بغض النظر عن انتمائه الديني أو لونه أو موطنه الأصلي، أن يجد منزلا أو ملجأ وأن يكون حرا ومستقلا وآمنا مع الالتزام الكامل بالقيم التي يعتنقها اليهود بفخر؟
حكومات نتنياهو المتعاقبة خانت ما وقف وعانى اليهود منه على مر القرون. وهو الآن مصمم على إخضاع المحكمة العليا وتعيين القضاة لأهواء السياسيين، الأمر الذي سيقضي على ديمقراطية إسرائيل ويجعلها دكتاتورية بحكم الأمر الواقع، الأمر الذي سيلحق الدمار بالفلسطينيين دون أي محاسبة. للأسف، وبلا عزاء، ستصبح إسرائيل، إذا لم تكن كذلك بالفعل، حملا أو عائقا وليست مصدر فخر وأمن لجميع اليهود، وخاصة يهود الشتات الذين يشكلون غالبية السكان اليهود في العالم.
وطالما استمر الاحتلال، لا يستطيع أي إسرائيلي أن يقول على وجه اليقين أين ستكون إسرائيل بعد 10 – 15 سنة. المتطرفون الإسرائيليون الذين يعتقدون أن بإمكانهم الحفاظ على الاحتلال إلى أجل غير مسمى، ومصادرة المزيد من الأراضي، وبناء مستوطنات جديدة وتوسيع المستوطنات الحالية، وإجبار الفلسطينيين اليائسين على المغادرة، واجتثاث الآخرين، هم مضللون بشكل ينذر بالسوء ويقدمون إضرارا مروّعا للبلاد ويهود العالم.
هل يمكن أن يكونوا غافلين حقا عن استمرار تصاعد التشدد الفلسطيني الذي ترعاه إسرائيل ولن يؤدي إلا إلى إراقة المزيد من الأرواح والثروات من إسرائيل؟ إن الشباب الفلسطينيين الذين اغتصب مستقبلهم يضحون بأنفسهم بسعادة ليكونوا أحرارا بدلا من العيش بلا أمل في العبودية.
وطالما استمرت إسرائيل في كونها قوة احتلال، فلن تستطيع ولن تكون في أي وقت من الأوقات في وضع يسمح لها بالمطالبة بالأخلاق العالية المتجذرة في القيم اليهودية. الأمر متروك الآن للجمهور الإسرائيلي للمطالبة بإنهاء 56 عاما من الاحتلال والالتزام بالفرضية الكامنة وراء إنشاء إسرائيل: أن تكون دولة حرة وآمنة ومبدعة ومنارة على الدول الأخرى.