الاتحاد الأوروبي.. دكتاتورية الثريّ

وباء كورونا أحدث ضررا مضاعفا في الاتحاد الأوروبي. قتل البشر هناك كما فعل في كل مكان حل به حول العالم، وزعزع أركان التكتل بكل قوته الاقتصادية والعسكرية والسياسية. ليس فقط لأن أضرار الجائحة كانت مهولة ومفاجئة، وإنما لأن الاتحاد في هيكليته يعاني هشاشة تكشفت بوضوح في أزمة الفايروس، بعدما اختبأت لسنوات طويلة خلف شعارات عدة.
المسألة تتلخص في أن الاتحاد الأوروبي يسير منذ الأزمة المالية العالمية عام 2008 بمبدأ دكتاتورية الثري. هذا الثري في ظل أزمة كورونا هو ألمانيا وبدرجة أقل هولندا. وبعد فشل ثلاث قمم أوروبية في وضع حلول تحتوي الأزمة على مستوى التكتل، فُتِحَ الباب أمام تساؤلات ملحة حول متانة الرابط الذي يجمع 27 دولة، تشترك في الجغرافيا وتختلف في درجة الثراء والأنماط الفكرية والاجتماعية التي تحل محل الدستور في الشدائد أحيانا.
الوباء يمثل التحدي الثالث للاتحاد الأوروبي منذ بداية الألفية الجديدة، بعد الأزمة المالية العالمية وخروج بريطانيا من عضويته. لا يجب إنكار أن التكتل بات أقل تماسكا بسبب هذه التحديات
في منتصف عام 2019، وبينما كان الاتحاد الأوروبي يقف على بعد أشهر من رحيل بريطانيا عنه، قال الرئيس الألماني، فرانك- فالتر شتاينماير، إن بلاده قوة اقتصادية كبيرة في أوروبا، ولكنها تعلم تماما مدى اعتمادها على الأعضاء الآخرين في الاتحاد الأوروبي. كان الكلام حينها لطمأنة بقية دول الاتحاد بأن برلين لن تنفرد بالهيمنة على التكتل بعد طلاق لندن وبروكسل.
لم يمر عام واحد على تصريحات شتاينماير حتى اجتاح وباء كورونا القارة الأوروبية بأكملها. تقدمت برلين بمساعدة محدودة للشركاء بقليل من الكوادر والأدوات الطبية دون مقابل، ولكنها وضعت الشروط أمام الدعم المالي الألماني لمواجهة تداعيات المحنة على اقتصاديات دول الاتحاد. لن يكون الأمر مجانا ولابد من إجراءات يلتزم بها الجميع حرفيا ودون نقاش.
تماما كما حدث عندما وقعت الأزمة المالية العالمية عام 2008، غرقت العديد من دول الاتحاد الأوروبي بديون وأعباء مادية أرهقت اقتصادياتها ووضعتها على حافة الإفلاس. فأخذت ألمانيا على عاتقها إنقاذ تلك الدول، ولكن ليس مجانا وليس دون شروط. لقد فرضت عليهم إجراءات تقشف أوجعتهم أكثر من تداعيات الأزمة ذاتها، وجعلتهم طوال سنوات العقد الذي تلا الأزمة المالية يلومون أنفسهم على القبول بشروط برلين وقيودها التعسفية.
اليوم تحتاج الدول الأوروبية ألمانيا أكثر بكثير من عام 2008. وعلى الرغم من أن برلين تعيش الوباء نفسه، وتشارك الأوروبيين الألم ذاته في الموت والخوف والقلق، إلا أنها تصر على مبدأ المساعدة المالية المشروطة للشركاء في التكتل. لن تقدم ألمانيا دعما ماليا على سبيل الهبات، ولن تمنح مكرمة لدولة ترفض التوقيع على صك استحقاق السداد في آجال لاحقة.
ليس بالضرورة أن يكون السداد عبر إعادة الأموال إلى خزائن ألمانيا، وإنما يكفي القبول بهيمنة الأخت الكبرى على الاتحاد الأوروبي لعقد آخر من الزمن. يكفي القبول بشروط برلين وخططها في إدارة شؤون الاتحاد كي تبقى هي القوة الاقتصادية الأولى فيه. وبالتالي يكون لها الصوت الراجح والكلمة الأخيرة في جميع القرارات الداخلية أو الخارجية التي تصدر عن التكتل.
حتى فرنسا وإيطاليا، صاحبتا ثاني وثالث قوة اقتصادية في الاتحاد الأوروبي، قلقتان من الهيمنة الألمانية. وتخشيان أن تؤدي دكتاتورية برلين لتفكك التكتل وانهياره. الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون خرج إلى العالم محذرا من احتمال تضعضع أركان الاتحاد بسبب أزمة كورونا، وبعد بضعة أيام فقط صدر تحذير مشابه من رئيس الحكومة الإيطالية جوزيبي كونتي.
لا تلام ألمانيا في تقديم حماية شعبها ومحاصرة الوباء داخل حدودها، على مساعدة الدول الأوروبية في مواجهة الوباء. وقد لا تلام أيضا على فرض الشروط مقابل أي مساعدة مالية تقدمها لأي دولة أوروبية. ولكن المبالغة في التضييق على الشركاء تحت وطأة كارثة إنسانية مثل التي يعيشها العالم بأسره اليوم، ربما تقود لاحقا إلى عواقب لا تقدّر برلين خطورتها بدقة.
تمتلك ألمانيا أسبابا منطقية لهذا التعامل العقلاني مع أزمة كورونا. ولاشك أن لهذه العقلانية دورا في جعل ألمانيا الأقل تضررا من الوباء أوروبيا إلى الآن. ولكن فرض العقلانية الألمانية على الجميع بدكتاتورية المال لا يبدو خيارا جيدا على المدى الطويل. لا تريد برلين أن تواجه، مستقبلا، مزيدا من طلبات الانفصال عن التكتل لدول ضاقت ذرعا بالماكينة الألمانية.
قد يقول أحدهم إن ألمانيا تريد من هيمنتها الاستعداد لمواجهة المنافس البريطاني على الصدارة الأوروبية اقتصاديا. لا أعتقد أن المملكة المتحدة تسعى لخصومة مع الجيران، وحتى لو كان ذلك صحيحا، فلا يبدو أن الأمر ملحا. ولا يبدو أن برلين تحتاط فيه لصعود اليمين الأوروبي المتطرف الذي يتغذى على كل خذلان تعيشه دول التكتل لأسباب داخلية أو خارجية.
ما يجدر أخذه بالاعتبار اليوم هو أن الوباء يمثل التحدي الثالث للاتحاد الأوروبي منذ بداية الألفية الجديدة، بعد الأزمة المالية العالمية وخروج بريطانيا من عضويته. لا يجب إنكار أن التكتل بات أقل تماسكا بسبب هذه التحديات. وإن كان ثمة فرصة متبقية لإصلاح الأمر فهي تحتاج من ألمانيا وغيرها تنازلات كبيرة. وربما من الأفضل تجربة ديمقراطية الانتماء بدلا من دكتاتورية الثري.