الإنفاق بلا ضوابط بعد الحرب دمر الاقتصاد اللبناني

الإسراف في زيادة أجور الموظفين وطبيعة النظام المالي عرقلا النهوض بالنمو.
الاثنين 2022/01/24
أعمالنا تعطلت جراء السحب بالتقسيط

أعاد إقرار الحكومة اللبنانية الأسبوع الماضي خطة لترتيب فوضى الإنفاق العام الحديث داخل أوساط المحللين حول العامل الأساسي الذي جعل اقتصاد البلد يصل إلى هذه الدرجة من الانهيار المالي، رغم أنهم يجزمون أن كل ما حصل جاء بفعل سوء الإدارة عندما عمدت النخبة الطائفية للإنفاق والاقتراض دون ضوابط وبلا مساءلة.

بيروت- يؤكد محللون أن قصة الانهيار المالي الذي شهده لبنان خلال العامين الأخيرين تختزل مسار انحراف رؤية يعود لما بعد انتهاء الحرب الأهلية لإعادة بناء دولة اشتهرت في ما مضى بأنها “سويسرا الشرق”.

ويمر البلد بأزمة اقتصادية طاحنة بعد أن تراكمت الديون على الحكومات المتعاقبة منذ 1990 دون أن تحقق إنجازات بهذا الإسراف في الإنفاق.

وبينما أصاب الشلل البنوك التي تعد محورية للاقتصاد القائم على الخدمات، عجز أصحاب المدخرات عن سحب أموالهم بعد أن حالت الأزمة بينهم وبين حساباتهم الدولارية أو قيل لهم إن الأموال التي يمكنهم السحب منها الآن لم تعد تساوي سوى جزء صغير من قيمتها الأصلية.

ففي وسط بيروت الذي سوّته الحرب الأهلية بالأرض ارتفعت من جديد البنايات العالية التي شيدها مهندسون معماريون عالميون ومراكز التسوق الفاخرة التي امتلأت بمنتجات أسماء تجارية كبرى وكانت تقبل الدفع بالدولار أو بالليرة.

        مؤشرات سلبية

495 في المئة حجم الدين العام في 2021

23 ألف ليرة سعر صرف العملة الأميركية

40 في المئة من 6.5 مليون ساكن يعانون من الفقر المدقع الشهرية

لكن لبنان لم ينجز شيئا آخر بجبل الديون الذي تنامى حتى بات في ذلك الوقت يعادل 150 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي ليصبح واحدا من أكبر أعباء الديون في العالم.

ولم يعد بإمكان محطات الكهرباء أن تلبي الاحتياجات على مدار الساعة وأصبحت الثروة البشرية في بلد يبلغ تعداد سكانه نحو 6.5 مليون نسمة، هي الصادرات الوحيدة التي يمكن التعويل عليها.

ونتيجة لذلك بلغت نسبة من هم ضمن خط الفقر عند نحو 80 في المئة بينما يبلغ نحو 40 في المئة من هم في الفقر المدقع بحسب لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا (الإسكوا).

ووصف بعض الاقتصاديين النظام المالي اللبناني بأنه احتيال منظم على غرار خطة “بونزي الهرمية”، والتي يتم فيها اقتراض أموال جديدة لسداد مستحقات الدائنين الحاليين. وتفلح هذه الخطة في تحقيق مآربها إلى أن تنفد الأموال الجديدة.

وعمد لبنان خلال العقود الثلاثة الأخيرة إلى موازنة دفاتره بإيرادات السياحة والمساعدات الخارجية وحصيلة إيرادات القطاع المالي وسخاء دول الخليج العربية التي مولت الدولة بدعم احتياطيات مصرف لبنان المركزي.

وكان أحد المصادر الرئيسية للدولار هو تحويلات ملايين المغتربين الذين سافروا للعمل في الخارج. وحتى في الأزمة المالية العالمية عام 2008 واصلوا تحويل الأموال إلى البلاد.

لكن وتيرة التحويلات بدأت تتباطأ بدءا من 2011 عندما أدت الخلافات الطائفية في لبنان إلى المزيد من التصلب السياسي وانزلق جانب كبير من الشرق الأوسط وخاصة سوريا المجاورة إلى حالة من الفوضى.

وبدأت دول الخليج التي كانت في وقت ما مصدرا يُعوّل عليه للدعم تدير ظهرها بسبب تنامي نفوذ إيران في لبنان عبر جماعة حزب الله الشيعية المسلحة التي تنامى نفوذها السياسي بدوره.

وقفز العجز في الموازنة إلى مستويات كبيرة وازداد العجز في ميزان المدفوعات عندما عجزت التحويلات عن مجاراة الواردات التي تشمل كل شيء من الأغذية الأساسية إلى السيارات الفارهة.

وكان هذا هو الوضع حتى 2016 عندما بدأت البنوك تعرض أسعار فائدة مرتفعة على الودائع الجديدة بالدولار الذي كان عملة مقبولة رسميا بفعل دولرة الاقتصاد وتعرض كذلك أسعار فائدة أعلى كثيرا على الودائع بالليرة، بينما في أماكن أخرى من العالم كان أصحاب المدخرات يحصلون على عوائد زهيدة.

نسبة من هم ضمن خط الفقر بلغت عند نحو 80 في المئة بينما يبلغ نحو 40 في المئة من هم في الفقر المدقع

وأبقى ربط العملة اللبنانية بالعملة الأميركية بسعر 1500 ليرة للدولار منذ أكثر من عقدين البلد بعيدا عن أي مشكلة محتملة حيث تدفقت الدولارات واستطاعت البنوك أن تواصل تمويل الإنفاق العام.

كما أدت سياسات المركزي بقيادة حاكمه رياض سلامة المصرفي السابق في ميريل لينش منذ 1993 الذي استحدث “هندسة مالية” بسلسلة من الآليات، إلى تقديم البنوك عوائد سخية على الودائع الدولارية الجديدة.

وقال مصرفيون لرويترز إن هذا الأسلوب كان من الممكن أن يكون ملائما إذا ما تبعته إصلاحات سريعة، لكنه ليس كافيا دونها وهو ما آلت إليه الأمور. وظهر تحسن التدفقات الدولارية في زيادة الاحتياطيات الخارجية وما كان أقل وضوحا وبات الآن موضع خلاف هو زيادة الالتزامات.

وبحسب بعض الحسابات انمحى من أصول المركزي ما يفوق ديونه، ولذا فربما تكون خسائره هائلة. وفي الوقت نفسه صعدت كلفة خدمة الدين إلى حوالي ثلث الإنفاق في الموازنة أو أكثر.

وعندما احتاجت البلاد للجم الإنفاق أسرف الساسة في زيادة أجور موظفي الدولة قبل انتخابات 2018. وأدى فشل الحكومة في تنفيذ الإصلاحات إلى حجب المانحين الأجانب مساعدات بالمليارات من الدولارات كانوا قد تعهدوا بتقديمها.

وكانت الشرارة الأخيرة في أكتوبر 2019 هي خطة لتطبيق ضريبة على مكالمات تطبيق واتساب. وفي ضوء ضخامة عدد المغتربين وانخفاض النظام الضريبي الذي يميل لصالح الأثرياء كان لفرض رسم على الطريقة التي يتواصل بها السكان أثر كارثي.

العجز في الموازنة قفز إلى مستويات كبيرة وازداد العجز في ميزان المدفوعات عندما عجزت التحويلات عن مجاراة الواردات

وانجرت عن ذلك حالة من الشلل نضبت على إثره تدفقات النقد الأجنبي من الخارج وخرجت الدولارات من لبنان. ولم تعد لدى البنوك دولارات كافية لسداد أموال المودعين الذين اصطفوا في طوابير في الخارج مما دفع البنوك لإغلاق أبوابها.

كما عجزت الحكومة عن سداد التزاماتها على الدين الخارجي. وانهارت العملة حتى بلغ الدولار مؤخرا حوالي 23 ألف ليرة بعد أن هبطت في وقت سابق من الشهر الجاري إلى 34 ألفا.

وبعد انكماش اقتصادي سريع، بلغ الدين الحكومي ما يعادل 495 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي في 2021 وفقا لبعض التقديرات وهو ما يفوق بكثير المستويات التي عرقلت بعض الدول الأوروبية قبل نحو عشر سنوات.

10