الإنس والجن

التجأت سلطات طرابلس ممثلة في حكومة الوحدة المنتهية ولايتها إلى استجلاب ساحر معترف به من إحدى الدول الشقيقة، وتكليفه بحل لغز الحرائق الغامضة التي ما انفكت مدينة الأصابعة تشهدها منذ أكثر من شهرين، وهو ما أثار جدلا واسعا ليس في الأوساط الشعبية فقط وإنما بين النخب السياسية ورجال الدين وفي وسائل الإعلام كذلك، مع ترجيح البعض أن يكون الجن وراء تلك الحرائق، حتى أن هناك من تحدث عن عقاب من الجن السفلي لسكان المدينة بسبب توصل حفّاري قبور إلى اكتشاف كنز مرصود واستخراجه من باطن الأرض دون استشارة حراسه من أبناء العفاريت وأخذ الإذن منهم.
وقيل إن الجن اشترط إعادة الكنوز التي سرقت منه إلى مكانها للتوقف عن إضرام النار في المنازل، دون أن يفسر لنا أصحاب تلك الإشاعة كيف أن حضرة العفريت المبجل من عفاريت الجان المحترمة يستطيع أن يحرق المساكن ويساوم البشر ولا يعرف كيف يحمي الكنوز التي كانت في قبضته. وهو بطبيعة الحال قادر على معاكسة العباد بدخول الأجساد وسجن الأرواح وشل الحركة، وبالمقابل يعجز عن استرجاع كنوزه إذا افترضنا أنه كان نائما أو غافلا أو منشغلا بمهمة أخرى عندما تعرضت كنوزه إلى السرقة.
ورغم أن الكثير من لجان التحقيق وفرق البحث، سعت إلى حل اللغز، لكن الفكرة العامة التي كانت مسيطرة على أصحاب القرار هي أن الموضوع مرتبط بالعالم الآخر، كما حدث سابقا في محاولات تفسير الأزمات والظواهر الغامضة. فعنوسة الفتاة وعقوق الشاب وطلاق الأزواج والإصابة بالأمراض المستعصية وفشل المشروع التجاري واحتراق المحصول الزراعي مثلا كلها ناتجة عن احتكاك بالعالم الآخر، وهناك من يتذكر كيف أرجع البعض مسلسل الانتحارات الذي شهدته مدينة البيضاء في العام 2017 إلى سطوة الجان دون الانتباه إلى انتشار المخدرات وحبوب الهلوسة والمشاكل الاجتماعية وانسداد الآفاق وظهور مواقع إلكترونية تشجع على الانتحار وتروّج للأساليب والوسائل المتاحة من أجل ذلك .
اللافت في الأمر، أن في ليبيا العديد من المناطق التي يشاع أنها مأوى للجان، ومن ذلك منطقة بردي ذات الطبيعة الساحرة بأقصى شرق ليبيا، والتي يقال إن بها مقر إقامة جن سليمان، وقد روى أحد وزراء النظام السابق كيف سافر في مهمة في اليمن، وهناك استقبله مسؤولون كبار، وعندما علم أحد الشيوخ بأنه أمام وزير قادم من ليبيا، فرّ من أمامه، مبررا ذلك بأن والده أبلغه أن الملك سليمان تخلص من الجن المتمردين برميهم في الأراضي الليبية .
وهناك كاف الجنون في منطقة غات، وهو جزء من جبال أكاكوس في الجنوب الغربي لليبيا قرب الحدود مع الجزائر، يقال إنه عاصمة جن العالم، وممّا يروى من نكات عنه، أن العقيد معمر القذافي سمع عنه في ثمانينات القرن الماضي، فقرر أن يقتحم الكهف ليطلع على حقيقة ما يدور داخله، ولمّا علم الحراس بتلك الخطوة لحقوا به لإنقاذه من أيّ خطر يمكن أن يتهدده، ولكنهم فوجئوا به يخطب بصوت عال تتردد أصداؤه في جنبات الكهف، وجحافل الجن تهتف بحماس فياض: "علمنا علمنا، كيف نحقق مستقبلنا."