الإنسان غير مؤهل ليعيش من دون معتقد

كتاب “الاعتقاد” يفكّك العلل النفسية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية للمعتقدات.
الخميس 2020/05/14
الفراغ يهدد البشر (لوحة للفنان ضياء العزاوي)

مقاربات فلسفية وأدبية وحتى علمية طالت الدين، بمختلف حمولاته التاريخية والفكرية والأخلاقية وحتى الأدبية والأسطورية والجمالية وصولا إلى أدواره النفسية، في كل عصر يفكك الدين ليعاد فهمه أو صياغته، واليوم في ظل انتشار العنف الديني وتهديده للسلام البشري والمجتمعات الحديثة بات لزاما على المفكرين إعادة تفكيك المنظومة الدينية لتوفير فهم معاصر له يمكننا من ترسيخ ثقافة التسامح.

 تونس – هل يرتهن التوازن السيكولوجي بالمعتقدات؟ هل من مشروعية لمعيش خال من المعنى؟ ما طبيعة العلاقة العليّة بين المعتقد والخلفية المعرفية؟ كيف تحد بعض المعتقدات من فاعلية الإنسان؟ أليس الوعي الأسطوري الحاضنة الأساسية للدغمائيين؟

أليست المعتقدات مرتبطة عضويا بسياقاتها التاريخية؟ كيف تستثمر بعض المقاربات السياسية ذاك الوعي الوثوقي؟ ألسنا بحاجة إلى يقظة الحس الإشكالي؟ كيف يقطع التفكير النقدي – النيّر مع المنطق التسليمي؟

تلك هي أبرز الإشكالات التي دقّق في أصولها وفصولها الكتاب الجماعي الذي جاء بعنوان “الاعتقاد”، والذي نشره المجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون “بيت الحكمة”.

يتضمّن الكتاب، الصادر باللّغة الفرنسية، وبإشراف الباحثين رياض بن رجب ووحيد السعفي، دراسات لباحثين مختصين ومفكرين تونسيين وأوروبيين قد فكّكوا العلل النفسية، والاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية للمعتقدات، موضّحين انعكاساتها وبعض إمكانات الخلاص من وثوقياتها المكبّلة للنقد والتأسيس.

في مقدمة الكتاب يؤكد كل من أستاذ الطب النفسي السريري رياض بن رجب، وأستاذ الحضارة العربية – الإسلامية وحيد السعفي على أنّ الإنسان من الزاوية الأنثروبولوجية غير مؤهّل لخوض تجربة المعيش في ظل الفراغ، لأنّه حسب قولهما "بحاجة إلى الاعتقاد في أنسقة أيديولوجية، فلسفية، دينية، تضفي المعنى على الظواهر الوجودية".

الإنسان غير مؤهّل لخوض تجربة المعيش في ظل الفراغ
الإنسان غير مؤهّل لخوض تجربة المعيش في ظل الفراغ

وفي رأيهما تمثّل المعتقدات بقطع النّظر عن مدى وجاهتها إشباعا لاحتياجات نفسية تجمع مناهج التحليل النفسي ومخابر المعالجات الإكلينيكية حول نجاعتها، ألم يؤكّد كارل يونغ مؤسّس علم النفس التحليلي على "أنّ الإنسان مستعد لإنتاج الوهم من أجل تأثيث الفراغ"؟

ونستخلص ممّا تقدّم العلاقة العليّة الوثيقة بين المعتقدات ووظائفها ذات الصلة بقضايا الكيان الإنساني، "فلا وجود لعقيدة إن كانت فردية أو جماعية متعالية، بل تتنزّل في سياق تاريخي محدّد.. فهي استجابة لما هو وجودي واجتماعي في آن" كما يقول المفكّر عبدالمجيد الشرفي، رئيس مجمع بيت الحكمة، في دراسته حول العقائد، حيث يسلّم في هذا السياق بضرورة استيعاب كل المعتقدات ضمن سياقاتها التاريخية، بما تعنيه تلك السياقات من اعتبارات اجتماعية وسياسية وفكرية، لأنّ المعيش في حدوده الاقتصادية والسياسية والمعرفية محدّد لتشكّل الوعي، وهو ما يعبّر عنه في المعجم الأنثروبولوجي بمسار التشريط الثقافي.

لذلك يرفض الأستاذ عبدالمجيد الشرفي اجتثاث المعتقد من بيئته ومصادره المعرفية السائدة، مستشهدا بالمقاربة الخلدونية (ابن خلدون) في تناولها لتراجع وظيفية اللاهوت ضمن أطر غدت فيها المقولات اللاهوتية "غير مجدية".

ولا يمكن وفقا لأطروحة الدكتور الشرفي التحرّر من وثوقية العقائد وهيمنة الفكر الأسطوري في إلّا عبر “تعزيز القراءة النقدية -النيّرة”، إذ ينطلق في هذا المجال من "أزمة الفكر الإسلامي" التي تحتّم كما يقول "قراءة نقدية للفكر الإسلامي ككل"، لكن يمكن برأيه أن يفضي الوعي النقدي إلى القطع مع المعتقدات التي “تحد من فاعلية الإنسان”.

قد يجنح الكائن البشري نحو الاعتقاد في قيم ومفاهيم مهدّدة لفاعليته، لذلك لا بدّ من مساءلة إشكالية لقيمنا ومفاهيمنا ومسلّماتنا التي نطمئنّ لوظيفتها النّفسية أساسا، وهذا ما تناوله أستاذ علم النفس بجامعة باريس 4 فرانسوا مارتي، في دراسة حول الاعتقاد في التحليل النفسي منطلقا من مقولة فرويد الشهيرة "نعتقد بسهولة في ما يلبي أوهامنا المرتبطة برغباتنا بقطع النظر عن الحقيقة".

وفي رأيه توفّر عديد المعتقدات حلولا علاجية كتأثيث الفراغ، وإضفاء المعنى، وتفسير الظواهر العصية عن الفهم، وتبرير بعض المحن وغيرها. لنستوعب بتصوّره صعوبة القطع النهائي مع أنسقة المعتقدات، منسجما في موقفه مع أطروحة المحلّل النفسي والباحث في علم النفس العيادي بالجامعات الفرنسية ماري – جون سوراي، المشدّد في مداخلته حول وظيفة الديني في العالم المعاصر على نجاعة الاعتقادات في "تعزيز تمثّل العالم" لما تقدّمه الأديان من أجوبة وتأويلات وتفسيرات في مجالات متعدّدة خاصّة ذات الصلة بالشأن الميتافيزيقي، إلى جانب "تيسير إدراك الذوات لماهياتها" فضلا عن "تسكين آلام القلق" و”تنظيم الروابط الاجتماعية”.

ندرك ممّا تقدّم سلطة الاعتقاد ونفوذ المسلّمات، وإن كانت موغلة في البعد الأسطوري ومهدّدة لسلطة الذات التي تنشد السيادة، ألا يمثّل العنف بأشكاله السائدة اليوم في العالم أبرز الحجج المجسّمة لسلطة الأوهام والأساطير؟

يجيب على هذا السؤال المفكر والباحث حمادي صمود في دراسته حول قضايا الاعتقاد والعنف والجهاد في الإسلام، مبيّنا مخاطر المسلّمات الساذجة المنتجة بالقوّة وبالفعل لثقافة الانتحار بحجّة الجهاد من أجل الدّرجة الأعظم.

 كما وضّح عنف التعصّب والتطرّف المرتبطين حتما بمعتقدات ومقدّسات تقتضي يقظة العقل النقدي. فمن الطبيعي جدّا أن تكون مضامين كتاب الاعتقاد أنجع السّبل لزعزعة الأوهام وأفيون الإرث التسليمي للقطع مع الوعي القطيعي والاغتراب، توقا إلى استعادة إرادة الفعل وفاعلية الذات المريدة.

14