الإنسانيات الرقمية والداروينية الأدبية

تسمح التبادلية للإنسانيات الرقمية، كما يقول الخبراء لدى جامعة كيمبريدج، بأن تستقي منهجيتها الخاصة من العلوم الاجتماعية كالأنثروبولوجيا والجغرافيا البشرية والسوسيولوجيا والسيكولوجيا، والإنسانيّات التقليدية كالتاريخ والفلسفة واللغويات والموسيقى والدراسات الثقافيّة، باستخدام النشر الرقمي والأدوات التي تزوّدها التكنولوجيا الكمبيوترية، كالنص الفائق أو المتشعب، والميديا الفائقة، والتحليل النصي والبياني.
أدت هذه المنهجية التي طورتها الإنسانيات الرقمية، في السنوات الماضية، إلى ظهور “نظريات نشوئية- كالداروينية الأدبية- تنظر إلى الإبداع الأدبي بوصفه مسلكا إنسانيا متطورا”، فلا فاصل، من وجهة نظر المنظرين لهذه النزعة، بين نتاجات المخيلة الثقافية وبين المعرفة اللازمة لفهم السلوك الإنساني برمته، وينبغي أن تخضع، هي ذاتها، لمنظور النشوء والترقي، ضمن عمليّة اصطفاء طبيعي.
الداروينية الأدبية
والداروينية الأدبية مصطلح نحته الأميركي جوزيف كارول، أستاذ الإنكليزية في جامعة ميزوري، وقدم تنظيرات له في كتبه الأربعة المنشورة لغاية الآن، وهي “التطور والنظرية الأدبية” (1995)، و”الداروينية الأدبيّة: التطور والطبيعة البشرية والأدب” (2004)، و” قراءة الطبيعة البشرية: الداروينية الأدبية في النظرية والتطبيق” (2011)، و”تخطيط جين أوستن بيانيّا: الأسّ النشوئي للمعنى الأدبيّ” (2012). أراد كارول لنظريّته هذه أن تكون بديلا لما بعد البنيوية التي راجت في الأكاديميا الأميركية، من حيث إنكاره لخصيصتين اثنتين تعدّان من أهم ركائز ما بعد البنويّة، النصيّة – ملكوت الكلمات القائم بذاته، وفي ذاته، ولا يسمح بتأويلات خارج معنى النص نفسه. فلا شأن لنا بمقاصد كاتب النص ولا بالغاية التي دفعته إلى كتابته – واللاحتميّة، صبغة الخطاب التي تنتهك نفسها بنفسها.
تقوم الداروينيّة الأدبية على التحليل الكمي” المقداري التجريبي، وضع بيانات أكبر عدد متاح من النصوص الأدبية (الروائية منها على وجه الخصوص) ضمن برمجية كمبيوترية معينة، ودراسة بنى هذه الأعمال وحبكاتها، في محاولة لاستكشاف خصائص حقبة ما، حيث أن التفكير الإنساني الكوني يكاد يتشابه. فعلى شاكلة داروين نفسه الذي كان يدرس الكائنات الحية لمعرفة أنماط تطورها، ينكب الداروينيون الأدبيون، كما يقول دي. تي. ماكس في النيويورك تايمز، على قراءة الكتب لمعرفة الأنماط المتأصلة الفطرية في السلوك البشري، كالحمل وتربية الأطفال والجهود التي يبذلها الأفراد للاستيلاء على الثروات (المال والملكيّة والتأثير) والتنافس والتعاون داخل العائلات والمجتمعات.
|
المخيلة والتكنولوجيا
يؤكد جوزيف كارول، في مقابلة معه، أن “دعاة مذهب النشوء في العلوم الإنسانية والاجتماعية قد صاغوا أفكارا ‘ثقافية—عضويّة / بيولوجية’، فهم ينظرون إلى البشر بوصفهم حيوانات ثقافيّة. فالثقافة، بالنسبة إلى ‘المفسّرين الثقافيين’ الذين مازالوا يهيمنون على الإنسانيّات، تعمل مستقلّة، وتوظّف الفكر والعاطفة، والإحساس بالهوية الفردية والجماعية، لا تقيّدها نزعات بيولوجية أكثر من النزعات الشائعة كالجوع الفيزيقي”.
ثم يعيب كارول على الكثير من المنظرين الثقافيين لانتقاصهم من التفسيرات النشوئية. فهم “قد تجاهلوا أو أنكروا بوضوح فكرة أنّ النزعات المنقولة بيولوجيًّا تعيق على نحو أساسي تنظيم جميع الثقافات. إنهم يعرفون ‘الثقافة’، بطريقة دائرية، بوصفها العلة الوحيدة للظاهرة الثقافية، أو يداهنون الفكرة ‘الثقافية – العضوية’، فيما يقلّصون ضمنيّا جزء التفاعل البيولوجيّ إلى مجرّد مظهر ‘فيزيقي’ زهيد، يفترق برمّته عن الفكر والشعور والباعث والسلوك. لقد هيمنت هذه التطبيقيات الدونية على النظرية الثقافية التي سادت في الثلاثة أرباع الأولى من القرن العشرين، ومازالت تهيمن على الدراسات الثقافية إلى الآن”.