الإنترنت في عيد ميلادها الثلاثين

من عاصر التغيير ستلازمه صدمة الحداثة بقية سنوات حياته، ومن ولد بعد هذا التاريخ سيتساءل مستغربا، كيف عاش الناس قبل عصر الويب وكيف تواصلوا في ما بينهم؟ العالم قبل تاريخ 30 أبريل 1993 حتما ليس كما بعده.
تونس – ما بين عامي 287 و212 قبل الميلاد، عندما كان العالم الرياضي والفيزيائي أرخميدس يغتسل في حمامٍ عام، لاحظ أن منسوب الماء ارتفع عندما انغمس في الماء، وأن الماء اندفع على جسمه من أسفل إلى أعلى، فخرج في الشارع يجري ويصيح “أوريكا، أوريكا”، أي وجدتها وجدتها؛ كان هذا الحدث إيذانا بميلاد ما يعرف بقانون أرخميدس أو دافعة أرخميدس.
بعد 2200 عام تقريبا (12 مارس 1989) كان الفيزيائي تيم بيرنرز لي يشكو من صعوبة التواصل مع زملائه الباحثين داخل مركز سيرن في جنيف وآخرين موزعين عبر العالم، فخطرت على باله فكرة إنشاء شبكة عنكبوتية للتواصل.
هكذا هي الأفكار الكبيرة، تولد فجأة. لا نعلم إن كان تيم، الذي كان يشكو حينها من الضجر، قد خرج إلى الشارع صارخا: وجدتها، وجدتها. ولكن بالتأكيد نعرف ما حدث بعد ذلك، لقد أحدثت تلك الفكرة ثورة في عالم الاتصالات.
واصل بيرنرز لي تطوير فكرته، وبدأت تتجسد الأجزاء المختلفة لشبكة الإنترنت العالمية؛ من روابط معروفة باسم URLs ولغة HTML لوصف صفحات الويب وبرمجتها وبروتوكول HTTP. وفي 30 أبريل 1993 كشف الباحثون في مركز سيرن عن شبكة الويب العالمية (World Wide Web) واختصارها (www) ومنذ ذلك التاريخ تغير العالم.
في مارس 2019 احتفل العالم بمرور 30 عاما على اختراع الشبكة العنكبوتية، وكان تيم قد اقترح استخدامها باعتبارها نظاماً لإدارة المعلومات عام 1989، وبعد أربع سنوات احتفل العالم هذا الأسبوع بمرور ثلاثين عاما على إطلاق هذه الشبكة بوصفها أعظم اختراع ختم البشر به القرن العشرين. وتصل الإنترنت الآن أكثر من نصف سكان العالم ببعضهم البعض.
كان بإمكان بيرنرز لي الذي منحته الملكة إليزابيث الثانية لقب فارس (سير) عام 2004 أن يطالب بحقوق اختراع الويب، ليصبح أكثر الناس ثراء على الأرض، ولكنه فضل أن يستغني عن ذلك، كان يعلم بأهمية الإنترنت بالنسبة إلى العالم، إنها الهواء الذي نستنشقه اليوم. ولكن، ليس دون ثمن.
في عام 2019 طالب بيرنرز لي الجمهورَ والساسة بـ”الاتحاد معاً” لإنهاء سوء استخدام الشبكة، في خطاب الاحتفال بمرور 30 عاماً على ميلاد اختراعه.
وقال منشئ مؤسسة الشبكة العالمية إن الإنترنت خلقت فرصاً للمنفعة العامة، لكنها صارت أيضاً مجالاً يستخدمه “المحتالون، ومنحت صوتاً لهؤلاء الأشخاص الذين ينشرون الكراهية، وسهَّلت ارتكاب جميع أنواع الجرائم”.
وقال تيم في خطابه إنه سيكون من الانهزام وضيق الأفق افتراض أن الشبكة لا يمكن تغييرها إلى الأفضل، في ظلّ ما وصلت إليه في أعوامها الثلاثين الأولى، لكنه نصح الحكومات والمنظمات والجمهور بالعمل معاً لتطوير النظام الحالي وجعله متاحاً للجميع. وأضاف “إذا تخلَّينا عن إنشاء شبكة أفضل الآن، فلن تكون الشبكة هي التي خذلتنا، بل سنكون نحن من خذلنا الشبكة”.
وحدد بيرنرز لي جوانب ثلاثة للخلل الوظيفي تحتاج إلى المعالجة، وهي “النوايا الخبيثة المتعمدة، التي هي على شاكلة الهجمات والاختراقات التي ترعاها الدول، والسلوك الإجرامي، والمضايقات عبر الإنترنت”. وثانياً يأتي تصميم النظام الذي قال إنه خلق “حوافز فاسدة تجري فيها التضحية بقيمة المستخدم، مثل نماذج الإيرادات المعتمدة على الإعلانات التي تعتمد أعمالها على الروابط المضللة لزيادة عدد النقرات”. وثالثاً “الانتشار الكبير للمعلومات المضللة”.
وتابع قائلا “لا يمكننا إلقاء اللوم على حكومة واحدة فحسب، أو موقع تواصل اجتماعي واحد، أو الروح البشرية، إذ إن السرد المبسط للمسألة يحمل خطر استنفاد طاقتنا بدلاً من التركيز على أسبابها الجذرية، في الوقت الذي نلاحق فيه أعراض هذه المشاكل. ومن أجل استيعاب هذا بشكل صحيح سوف نحتاج إلى أن نجتمع باعتبارنا مجتمع شبكة عالمياً”.
وأضاف “نحن في حاجة إلى مدافعين عن الشبكة المفتوحة بين دوائر الحكومة، سواء الموظفين الحكوميين أو المسؤولين الذين سيتحركون عندما تهدد مصالح القطاع الخاص الصالح العام، والذين سينبرون لحماية الشبكة المفتوحة”.
30
عاما من الإنترنت.. والآن يطرح السؤال: هل روبوتات المحادثة مستقبل الشبكة العنكبوتية؟
وأشار إلى أنه “يجب على الشركات أن تفعل المزيد لتضمن أن سعيها لتحقيق الربح قصير المدى لا يأتي على حساب حقوق الإنسان أو الديمقراطية أو الحقيقة العلمية أو السلامة العامة. يجب أن تضع في الحسبان الخصوصية والتنوع والأمن عند تصميم المنصات والمنتجات”.
واختتم بيرنرز لي مذكرا بـ”ضرورة” إيصال الإنترنت إلى جميع أنحاء العالم، وقال إن “الكفاح من أجل الشبكة يعد إحدى أهم قضايا عصرنا. نصف عالمنا اليوم يتصل بالإنترنت. وإنه لمن الضروري اليوم أكثر من أي وقت مضى أن نضمن عدم ترك النصف الآخر دون الاتصال بالشبكة، وأن جميع الأشخاص يسهمون في شبكة تقود دفة المساواة، وإتاحة الفرص، والإبداع”.
وأضاف “الشبكة من أجل الجميع، ونحن إذا اجتمعنا نملك قوة التغيير، لن يكون سهلاً. ولكن إذا حلمنا قليلاً وعملنا كثيراً، يمكننا الوصول إلى الشكل الذي نريد أن تكون عليه الشبكة”.
ورغم أن محركات البحث تقوم بعمل هام جدا من خلال العمل على تصنيف و”فلترة” المعلومات اللامتناهية، إلا أن خلف هذه المؤسسات الرقمية الكبيرة، مثل غوغل وأبل وميتا وأمازون ومايكروسوفت، هناك شركات عالمية تسعى أساسا لجني الأرباح، فهي تربح من خلال هيكلة الإنترنت.
وقد تعمّد سير تيم بيرنرز لي عدم القيام بتسجيل اختراعه، ليقف في النهاية سعي الشركات وراء جني الأرباح في طريق تحقيق تصوره المثالي للتبادل الحر للمعلومات من دون ربح.
اليوم تقف الإنترنت على مشارف موجة ثانية يقودها الذكاء الاصطناعي وروبوتات المحادثة التي أشعلت حربا مستعرة بين الشركات الكبرى. وبعد 30 عاما من الإنترنت، يصرخ العالم: أوريكا، أوريكا؟