الإمبراطورية العمانية مثاقفة مفتوحة بين مسقط وزنجبار وجزر القمر

مثلت التجارة والهجرات بداية وسيلة هامة للتلاقح الحضاري العربي والأفريقي، ولعل أبرز مثال على ذلك زنجبار والمناطق التي انتمت من بعد إلى حكم العمانيين الذين روجوا للثقافة الإسلامية في قرن أفريقيا، وخلقوا جوا من التعايش الحضاري الكبير.
طلال المعمري
مسقط – أصدرت هيئة الوثائق والمحفوظات الوطنية الجزء الثاني من موسوعة الإمبراطورية العمانية من سواحل أفريقيا إلى سواحل الهند “رؤية تاريخية وسياسية للامتداد والتواصل الحضاري والثقافي واللغوي”، ضمن المجلد التاسع والعشرين من سلسلة البحوث والدراسات في الوثائق الوطنية والدولية.
ويحوي الجزء الجديد على 536 صفحة متضمنة 14 بحثا حول علاقات الإمبراطورية العمانية بالدول المطلة على سواحل أفريقيا والمناطق المجاورة لها وسواحل المحيط الهندي والخليج، وصولا إلى الصين خلال الفترة من القرن السابع عشر إلى التاسع عشر، تنوعت موضوعاتها بين تاريخية وسياسية وجغرافية واقتصادية واجتماعية وثقافية.
تناقل الحكم والثقافة
تطرقت الأوراق البحثية والدراسات في الكتاب إلى موضوعات وقضايا متنوعة، تم تقسيمها إلى أربعة أبواب؛ الأول الإمبراطورية العمانية من سواحل أفريقيا إلى سواحل الهند: الامتداد والتواصل التاريخي والسياسي والاقتصادي والحضاري والثقافي واللغوي، وتشير الورقة الأولى بعنوان “النشاط التجاري البحري للعمانيين في المحيط الهندي والخليج العربي في القرنين السابع عشر والثامن عشر” إلى أن العمانيين قاموا بدور أساسي في تاريخ الملاحة، والتجارة البحرية في مختلف العصور، ولكنه تراجع مع بداية القرن التاسع عشر الميلادي نتيجة الاحتلال البرتغالي للمنطقة ومن ثم تواجد الإنجليز والفرنسيين والهولنديين.
ورغم الأساليب الوحشية التي اتبعها الأوروبيون، إلا أن العمانيين استمروا في نشاطهم رغم المضايقات والتعديات، وبرز ذلك بصورة أكثر بعد تحرير اليعاربة لعمان والخليج العربي وتتبعهم للبرتغاليين في المحيط الهندي وفي شرق أفريقيا.
أما الدراسة الثانية بعنوان “مراسلات القناصل البريطانيين إلى السلطان سعيد بن سلطان البوسعيدي (1804 – 1856) والسلطان فيصل بن تركي (1888 – 1913): رؤية تاريخية وسياسية” فقد أشادت بتطور العلاقات العمانية – البريطانية بشكل كبير في عصر الدولة البوسعيدية، خاصة في المجالات السياسية والاقتصادية، وقد شهدت الفترة التي تعالجها الدراسة توقيع اتفاقيات عديدة في الجوانب السياسية والاقتصادية. وكان من نتيجة تلك العلاقة أن حفلت بمراسلات عمانية إلى الحكومة البريطانية ممثلة في القناصل البريطانيين في مسقط وزنجبار.
ويلقي البحث الضوء على طبيعة المراسلات العمانية إلى الحكومة البريطانية وما احتوته من دلائل ومعان ومفاهيم أو رؤية العمانيين لهذه العلاقة. وتكشف الدراسة طبيعة الخطاب بين رسائل السلطان سعيد بن سلطان التي تمثل بدايات عصر الدولة البوسعيدية سواء تلك المراسلات الصادرة من مسقط أو من زنجبار، وطبيعة رسائل السلطان فيصل بن تركي التي تناولت قضايا ومسائل العلاقات بين عمان وبريطانيا، وقد تقلصت رقعتها الجغرافية وانفصلت شرق أفريقيا عن سلطة مسقط. وتكشف الدراسة عن مدى الاختلاف في أساليب ومفردات الخطاب والعبارات وجوانب القوة فيها من خلال القراءة الدقيقة والتحليل السياسي والتاريخي لتلك المراسلات الموجهة إلى القناصل البريطانيين.
وفي البحث الثالث بعنوان “الوجود العماني في جزيرة مايوت القمرية قبل الاستعمار الفرنسي لها عام 1841” يشير الكتاب إلى أن مايوت أو جزيرة الموت، هي إحدى الجزر الأربع المكونة للأرخبيل القمري. وعرفت هذه الجزيرة التي تبلغ مساحتها 375 كيلومترا مربعا، الوجود العماني العريق في بدايات تاريخها ونظامها السياسي. حيث تشير بعض المصادر التاريخية إلى أن النباهنة العمانيين قد حكموا هذه الجزيرة لمدة 195 سنة، وذلك ابتداء من تولي السلطان بوانا فوم النبهاني الحكم في حوالي عام 1595 ميلاديا وانتهاء في عام 1790، سنة وفاة السلطان بوانا كومبو بن سالم (سالم الأول).
وقد انتقل الحكم بعد هذا التاريخ إلى أسرة عمانية أخرى أقامت ببلدة شينغوني، الحاضرة القديمة لجزيرة مايوت، وكانت هذه الأسرة ذات ثروة وتجارة ناجحة، وأحسنت استعمالها في وجوه الخير والبر، مما أكسبها سمعة طيبة واحتراما عظيما لدى الناس. وقد تزوج واحد من أفراد هذه العائلة واسمه صالح بن محمد المنذري بابنة سلطان مايوت، وتقلد الحكم خلفا له من عام 1790 إلى 1807، وأصبح منذ عام 1891 يعرف بسالم الثاني، باعتبار والد زوجته الذي ورث منه الحكم سالم الأول.
كما يتحدث الإصدار عن “الروابط السياسية والثقافية بين جزيرة موهيلي الإسلامية وسلطنة زنجبار: إمارة آل بوسعيد في جزيرة موهيلي القمرية (1852 – 1898)” يؤكد أن جزيرة موهيلي (Mohéli) تعتبر من أهم الجزر الأربع القمرية استقلالا، وأصغرها مساحة (290 كيلومترا مربعا)، ويطلق عليها الأوروبيون “الجزيرة الخضراء”. تقع في شمال قناة موزمبيق تعاقبت على حكمها ممالك عربية ممن هاجروا إلى تلك الجزر منذ العصور الأولى للإسلام، وتهدف هذه الورقة إلى إلقاء الضوء على حكم السلطان سعيد بن محمد وأولاده جزيرة موهيلي، وإلى أي مدى فرضوا سلطتهم في ظل الأطماع الفرنسية على الجزيرة.
وفي الباب الثاني يتحدث الكتاب عن التجار والبحارة العمانيين في الخليج وسواحل أفريقيا والمحيط الهندي والامتداد والتواصل الحضاري والثقافي، والأدبي، واللغوي، ويهدف هذا الباب إلى إبراز الدور العماني في نشر ودعم وتوطيد الجانب الإنساني من خلال الامتداد والتواصل الحضاري والثقافي، والأدبي، واللغوي في الخليج وبحر العرب وسواحل أفريقيا والمحيط الهندي.
التجار العرب وفي مقدمتهم العمانيون أسهموا وبشكل واضح في تسهيل وتعميق التواصل الحضاري والثقافي بين العرب وأفريقيا
في البحث الأول بعنوان “العمانيون في جزر القمر بين الاندماج والذوبان: دراسة تحليلية في ضوء نظرية المثاقفة” يشير إلى أن ارتباط عمان بالقرن الأفريقي ليس بالجديد، بل تضرب جذوره في أعماق التاريخ. ويقصد بالقرن الأفريقي ذلك الجزء الذي يشمل العديد من المناطق، منها جزر القمر، وإثيوبيا، ومدغشقر، وموريشيوس، وجيبوتي، والصومال، بالإضافة إلى سقطرى. وتظهر الدراسات أن التجار العرب وفي مقدمتهم العمانيون أسهموا وبشكل واضح في تسهيل وتعميق التواصل الحضاري والثقافي بين الجانبين العماني والأفريقي. وتركز هذه الورقة على الدور الذي لعبه التجار العمانيون في نشر مظاهر الثقافة العمانية في جزر القمر، كما يبين مدى تأثر الوجود العماني بالثقافة الأفريقية.
وعنون البحث الثاني بـ”الروابط السياسية والاجتماعية واللغوية والأدبية بين زنجبار وجزر القمر: مدائح السلطان خليفة بن حارب أنموذجا” حيث يؤكد على أن الصلات السياسية والثقافية والاجتماعية بين سلطنة زنجبار ودول القرن الأفريقي عامة، وبين زنجبار وجزر القمر خاصة، ذات بعد تاريخي؛ خاصة في عمق العلاقات الإستراتيجية بين زنجبار وجزر القمر، مما جعل تبادل الصلات بينهما قويا ومتينا.
أما البحث الثالث بعنوان “من بومباي إلى مسقط: عمان والهند والخليج في رحلة الأميركي لوخر (Löcher) عام 1866 بمظاهرها المتنوعة حضارة وسياسة واقتصاد واجتماع وثقافة” يشير إلى أنه “مع الهلال والنجم، رحلة من بومباي إلى إسطنبول عبر الخليج العربي عام 1868 م”، رحلة نفيسة للرحالة الأميركي لوخر (Löcher) خلال القرن التاسع عشر يصف فيها مشاهداته وانطباعاته بالغة الأهمية عن عمان في صلتها بالهند والخليج، حيث ينطلق في رحلة بحرية من بومباي (مومباي) إلى مسقط، ومنها إلى الكويت، فالعراق، ثم تركيا أخيرا.
التواصل الحضاري
أشارت الدراسة الرابعة في هذا الباب بعنوان “عمان في عدسة الرحالة البريطانيين خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر دراسة حول اللباس لدى الرجال والنساء وتقاليد الضيافة والاستقبال” إلى أنه طبقا لدوافعهم المتنوعة، وتوجهاتهم المختلفة التي ساهمت في رسم صور مختلفة عن عمان وأهلها، متفاوتة إيجابيا وسلبيا، في الفترات الزمنية المختلفة، فقد تناول أولئك الرحالة زوايا مختلفة عن البلاد.
وقد تراوحت بين مناخ مسقط وعمان، وطبيعة الأرض، وأوضاع العبيد – بحكم أن قضية تحرير العبيد في تلك الفترة كانت في أوجها بأوروبا وبريطانيا – وأخلاق الشعب وعاداته ومعتقداته، وأنواع التجارة وأصناف اللباس وغيرها من الجوانب. وتهدف الدراسة إلى التركيز على بعض الجوانب المشرقة التي انعكست على تكوين الانطباع الإيجابي لدى الغرب حول الهوية العمانية والتميز العماني في العديد من الجوانب، حيث كان لها الأثر الكبير في الانفتاح نحو التمدن والتحضر والانطلاق نحو توسيع العلاقات الدولية مع بريطانيا وأوروبا من خلال طرح إضاءات متنوعة من واقع حياة البلاط وعادات الضيافة والأزياء المميزة للرجال والنساء.
وفي “الآثار العمانية في كتابات الرحالة والمؤرخين البريطانيين في القرن التاسع عشر” يشير إلى أن سلطنة عمان تعد واحدة من الدول التي كانت محط أنظار ومقصد الكثير من الرحالة والمؤرخين البريطانيين في القرن التاسع عشر بحكم التسهيلات التي قدمت لهم بفضل العلاقات الوطيدة. وهدفت هذه الدراسة إلى التركيز على أهم الرحالة والمؤرخين البريطانيين الذين زاروا عمان في القرن التاسع عشر، وقد اختيرت هذه الفترة كإطار زمني نظرا إلى ثرائها بالكتابات البريطانية عن عمان في مختلف المجالات، إضافة إلى أنها شهدت صراعا أوروبيا لعقد علاقات تجارية مع عمان، لذا احتدم التنافس بين بريطانيا وفرنسا من أجل استغلال موقعها الإستراتيجي كونها أقرب الدول إلى مستعمراتهم.
ويتناول الباب الثالث الحراك التجاري والجغرافي والسياسي العماني في الخليج وسواحل أفريقيا والمحيط الهندي والامتداد والتواصل الحضاري والاجتماعي والثقافي والأدبي واللغوي (باللغتين الإنجليزية والفرنسية)، حيث تناقش الورقة بعنوان “مساهمة السلطان خليفة بن حارب تجاه تطور تقاليد الفكر الإسلامي في شرق أفريقيا والقرن الأفريقي (1911 – 1960)” والسلطان خليفة بن حارب أطول سلاطين البوسعيديين حكما في سلطنة زنجبار. خلال فترة حكمه امتدت سيادة سلطنة زنجبار من منطقة باروا في الصومال إلى جزيرة مافيا جنوب زنجبار. وكانت زنجبار مركزا للتميز الأكاديمي الذي آوى كبار العلماء من ذوي الأصول الثقافية المختلطة، والمساحات الجغرافية المتنوعة التي امتدت من سلطنة عمان واليمن في الشمال إلى الصومال وجزر القمر في الجنوب.
وتسعى هذه الورقة لإثبات إسهامات السلطان خليفة بن حارب في تطوير تقاليد الفكر الإسلامي في الشرق والقرن الأفريقي وتركز على نخبة من كبار العلماء من أصل عماني وحضرمي وعلماء من زنجبار وجزر القمر الذين كانوا ثمار عهد السلطان خليفة بن حارب.
وعن “السكان القمريين في زنجبار وأسرة البوسعيد العمانية (1832 – 1964): علاقة قائمة على الثقة” تشير الدراسة إلى أنه بعد وفاة خليفة بن حارب سلطان زنجبار قام المفكر والأديب أحمد قمرالدين، الذي كان يعمل حينها بمكتب وزير العمل مع رئيس حكومة جزر القمر، بتأليف لحن جنائزي أعرب من خلاله عن الأسى والحزن الذي انتاب سكان جزر القمر بسبب مأساة وفاة السلطان التي أصابت أسرة البوسعيد العمانية، ومنذ أن قام السلطان سعيد بن سلطان بفتح الباب أمام القمريين في زنجبار في عام 1832 قامت الحكومة المركزية ببناء علاقات قائمة على الثقة معهم، مما جعلهم موظفين يتمتعون بامتيازات خاصة، حيث كان لبعضهم دور مهم في نقل المعرفة الدينية، في حين أن آخرين كانوا يعملون لتحقيق العدالة.
وفي الوقت نفسه كان القمريون يتوافدون إلى زنجبار للتعرف على الإسلام، فمنذ القرن التاسع عشر أصبح أرخبيل زنجبار بمثابة مركز لنشر الإسلام، تقوم الدراسة بتحليل قضايا العلاقات الضاربة في القدم التي وحدت أسرة البوسعيد العمانية والسكان القمريين في زنجبار حتى عام 1964، كما تركز على الخصوصية التجارية بين الأمتين التي مثلت فيها زنجبار أنموذجا للعديد من القمريين.
والبحث الختامي في الإصدار بعنوان “التقاليد الموسيقية القمرية بين أفريقيا وإمبراطورية عمان في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر”، وتؤكد الدراسة على أن جزر القمر بموقعها الجغرافي المتميز تعد همزة وصل حيث تقع على المدخل الشمالي لمضيق الموزمبيق بين أفريقيا ومدغشقر وكانت محطة مهمة للتبادل التجاري بين أفريقيا الشرقية وبلدان الخليج العربي.
لذلك جمعت العديد من الشعوب منها البانتو والمسلمين والعرب والفرس والهنود والأوروبيين، وهذا التنوع العرقي كان وراء ظهور مجتمع من المولدين في الأرخبيل. والهدف من هذه الدراسة هو إعادة العلاقات الثنائية بين الموسيقى القمرية والعمانية بطريقة لها مدلولها الثقافي وتستجيب للسياق الاجتماعي التاريخي المعاصر.