الإمام الحسين "يعانق" سليماني.. إيران تأبى مبارحة التاريخ والمظلومية

الصورة التي نشرت في الموقع الرسمي للمرشد الأعلى للثورة الإيرانية، والتي تضمنت الإمام الحسين يحتضن قاسم سليماني بعد مقتله يوم 3 يناير، أثارت جدلا واسعا في وسائل الإعلام العربية ومواقع التواصل الاجتماعي. الصورة تتضمن دلالات عميقة تتجاوز حدث قتل سليماني لتصل إلى البنية الفكرية التي تحكم العقل السياسي الإيراني منذ ثورة العام 1979.
أنتج مقتل قاسم سليماني فجر الجمعة الماضي، ردود أفعال كثيرة تراوحت بين التهديد بالرد المزلزل المتناسب مع حجم “الفجيعة” الإيرانية، وبين اعتبار الحدث نتيجة طبيعية لانتهاء زمن الاعتماد الأميركي –الإيراني المتبادل. لكن نشر الموقع الرسمي للمرشد الأعلى الإيراني لصورة تتضمن الإمام الحسين يعانق قاسم سليماني، مرفوقا بتعليق من المرشد الأعلى نفسه، ذهب أعمق من الأبعاد النتائجية الميدانية للحدث.
الصورة وما صحبها من تعليق أعادت إلى الأذهان كل البنية الفكرية الحاكمة للعقل السياسي الإيراني منذ لحظة الثورة الإسلامية للعام 1979. بنية فكرية تتجاور فيها أبعاد المرابطة في التاريخ، مع استدعاء متجدد لتراث المظلومية الشيعية. هنا يساوي العقل السياسي الإيراني بين قاسم سليماني والإمام الحسين في مستوى “الشهادة”.
موقع المرشد علي خامنئي كتب تعليقا مرافقا للصورة جاء فيه “ها قد حلّق لواء الإسلام العظيم وشامخ القامة إلى السماوات. لقد عانقت ليلة أمس أرواح الشهداء الطيّبة روح قاسم سليماني الطاهرة. إنّ سنوات من الجهاد الخالص والشّجاع في ساحات مقارعة شياطين وأشرار العالم، وأعوام من تمنّي الشّهادة في سبيل الله بلّغت أخيرا سليماني العزيز هذه المنزلة الرفيعة إذ سُفكت دماؤه الطاهرة على يد أشقى أفراد البشر على وجه الأرض. إنّني أتقدّم بأسمى آيات التبريك لصاحب العصر والزّمان بقية الله الأعظم (أرواحنا فداه) ولروحه الطاهرة وأعزّي الشّعب الإيراني”.
في تحليل أبعاد الصورة التي لم ير موقع المرشد الإيراني ضيرا في نشرها، مستويان كلاهما لا يقل عمقا عن الآخر. الأول متصل بالإصرار على المرابطة في التاريخ. والثاني مرتبط بالمظلومية.
العودة إلى الإمام الحسين في حادثة مقتل قاسم سليماني، كانت دليلا آخر على المواظبة الإيرانية على القبوع في التاريخ
صحيح أن التشيع “الرسمي” الإيراني لم يبدأ مع الثورة الإيرانية، بل بدأ قبل ذلك بقرون مع سعي إسماعيل الصفوي (شاه إيران بين 1501 و1524) إلى جعل المذهب الشيعي المذهب الرسمي للدولة، لكن التحول الأبرز كان مع الثورة الإسلامية الإيرانية، لا من جهة تأكيدها على التشيع السياسي فقط، بل أيضا من ناحية تبني مبدأ “ولاية الفقيه في الحكم”، وكانت لهذه الأيديولوجية مقتضيات فرعية من قبيل أن الإسلام يستلزم تطبيق مبدأ ولاية الفقيه في الحكم، بما يعني أن إنشاء الحكومة الإسلامية وطاعتها هو “تعبير عن طاعة الله”، وتلك الحكومة الإسلامية هي بمثابة مبدأ عالمي وليست قاصرة على إيران، ولذلك يرى الخميني أن “تصدير الثورة الإسلامية أمر حتمي”. في هذا المبدأ ومختلف المقتضيات المترتبة عليه كان ثمة خيط ناظم يسوسها ويقودها وهو استدعاء التاريخ.
تركن إيران دائما إلى التاريخ الإسلامي، بل تأبى مغادرته لأنه يحكم نظامها السياسي، وتستعين به في كل منعطف تاريخي. لذلك فإن العودة إلى الإمام الحسين في حادثة مقتل قاسم سليماني، كانت دليلا جديدا على المواظبة الإيرانية على القبوع في التاريخ.
ولاشك أن تصوير الإمام الحسين يعانق قاسم سليماني كان كثيفا بالدلالات المتداخلة النابعة كلها من التاريخ. يجدر التذكير بمناسبة استدعاء الإمام الحسين، أن الأئمة في المتصور الشيعي هم إثنا عشر إماما، بدءا من الإمام علي وصولا إلى محمد المهدي مرورا بالحسين. لكن اللعب الإيراني بالتاريخ وبالمذهب رفع منزلة بعض الشخصيات السياسية إلى ما يشبه مرتبة الأئمة. يعامل الخميني معاملة الإمام المعصوم من الخطأ مثله مثل الأئمة الاثني عشر، بهذا المعنى تصبح “المساواة” الخفيّة بين الإمام الحسين وقاسم سليماني مساواة خطيرة سواء من حيث إضفاء هالة من التقديس على سليماني، أو من حيث توجيه رسالة مضمرة للأتباع والمتشيعين بأن سليماني ارتقى إلى منزلة الأئمة وهو ما يقتضي “انتقاما” يليق بإمام شهيد.
وإذا عرفنا أن قاسم سليماني لطالما اعتبر الطفل المدلل للمرشد الأعلى علي خامنئي، إلى درجة أنه استثنى فيلق القدس من كل التغييرات التي أجراها على مختلف المؤسسات الدينية والسياسية والعسكرية للدولة الإيرانية، فإن هذا التصوير الجديد هو أيضا تعبير عن فجيعة المرشد بفقدان ابنه وتلميذه النجيب وعصاه التي يضرب بها في كل الميادين.

الشعار الإيراني “كل يوم عاشوراء، وكلّ أرض كربلاء”، هو تعبير عن أن التصور الشيعي الإيراني يرى أن “الثورة” مستمرة عبر العصور وفي كل المواقع، وهو أيضا بمثابة اعتبار إيراني بأن حدث اغتيال سليماني هو امتداد لكربلاء، وأن سليماني هو امتداد للحسين، لكنه أيضا قرينة على رفض الخروج من تلك اللحظة التاريخية التي قسمت الأمة الإسلامية وحولت وجهة جهودها إلى معارك سياسية تراثية غائرة.
في المستوى الثاني لخطورة الصورة، تبرز فكرة المظلومية المستعادة. واظبت إيران على تشييد رواية قائمة على المظلومية الدينية والطائفية. مظلومية تبدأ من حوادث التاريخ الإسلامي (من الإمام علي والإمام الحسين) ولا تنتهي عند ادعاءات اضطهاد الشيعة من قبل النظام العراقي السابق. وهي مظلومية احتاجت إليها إيران في شحن الشيعة ضد أنظمتهم وضد المسلم المختلف، ما صنع تسييجا دينيا وفكريا بين الشيعة والسنة، أنتج تشنجا طائفيا ومغالاة تظهر وتختفي حسب الحاجات الإيرانية.
احتاجت إيران إلى تضخيم تراث المظلومية، بمختلف مراحله لتغازل الوجدان الشيعي ولتحول جهوده نحو العداء للأوطان والأنظمة. كان ذلك واضحا منذ الثورة الإيرانية، وأثناء الحرب العراقية الإيرانية، وصولا إلى مفصل أبريل 2003، حيت تم إسقاط النظام العراقي السابق والاستعانة بطبقة سياسية عراقية لا تمتلك من الوجاهة السياسية سوى اتكائها على مظلومية عدائها لنظام صدام حسين. لذلك لم يكن غريبا أن يصدح رئيس الوزراء العراقي الأسبق نوري المالكي بأن “المعركة بين أنصار الحسين ويزيد لم تنته بعد وأن فصولها ما زالت حتى الآن”.
نشر الموقع الرسمي للمرشد الأعلى الإيراني صورة الإمام الحسين يعانق سليماني ويستقبله “شهيدا” في السماء، والصورة تختصر كل طبقات التفكير السياسي الإيراني “المعاصر”، في مفارقة دالة على أن إيران تأبى مبارحة التاريخ القديم، وترفض التخلي عن عقلية الثارات والمظلومية، وهي بذلك لن تتحول دولة طبيعية تنضبط لشروط الدولة الحديثة.
اقرأ أيضاً: سخرية على تويتر من منح خامنئي الجنة لسليماني