الإمام الإلكتروني لا يكفي لهزيمة كتائب المتطرفين في مصر

أدركت المؤسسة الدينية بفروعها المختلفة في مصر أن شبكة الإنترنت صارت الفضاء المفضل والأكثر انتشارا لدى التيارات المتطرفة لصعوبة السيطرة عليه والوصول إلى عناصره ومبارزتهم فكريا بسهولة، ما جعلها تتوسع في نشر الأئمة والوعاظ وتنشئ إدارات متخصصة في الدعوة الإلكترونية على أمل إنقاذ ما يمكن إنقاذه.
القاهرة – وسّعت المؤسسات الدينية في مصر من حصارها لانتشار التيارات المتطرفة على شبكة الإنترنت ومنصات التواصل الاجتماعي بزيادة مساحة الدعوة الإلكترونية، أملا في تصحيح الأفكار المغلوطة ونشر صحيح الدين الإسلامي والترويج للفكر الوسطي المستنير، واستمالة الناس ناحية الداعية العقلاني والاعتماد عليه في الحصول على المعلومة الدينية.
وأطلقت وزارة الأوقاف مشروعا خاصا بالدعوة الإلكترونية كهدف استراتيجي لمقاومة عمليات الاستقطاب والتجنيد التي تقوم بها تيارات متشددة في الخفاء، سواء كانت جماعة الإخوان أو السلفيين أو حتى التنظيمات الإرهابية التي تتعرض لضربات قاسية من أجهزة الأمن، بعدما تبين للمؤسسات الدينية أنها صارت تعتمد على متصفحي شبكة الإنترنت ومنصات التواصل وليس رواد المساجد والزوايا الصغيرة.
وقال مختار جمعة، وزير الأوقاف، إنه تم إطلاق العشرات من الصفحات والمواقع والقنوات الإلكترونية للتواصل مع الجمهور بغرض نشر الدعوة والتثقيف والرد على أطروحات وأفكار وفتاوى المتطرفين، ومواجهة الكتائب الإلكترونية بالحجة والبرهان، إلى حين إجبارهم على رفع الراية البيضاء.
وأكد في تصريحات إعلامية قبل أيام أن الدعوة الإلكترونية من خلال الأئمة والوعاظ التابعين لوزارة الأوقاف تستخدم فيها تقنيات تكنولوجية عالية، وتمت الاستعانة بشباب الوزارة المتميزين من خريجي مركز الحاسب الآلي التابع لأكاديمية الأوقاف، وهؤلاء لديهم قدرات فنية وتقنية وعلمية عالية في مجال الدعوة الإلكترونية.
وتهدف وزارة الأوقاف من وراء الخطوة إلى نقل المعركة مع المتشددين من ساحات المساجد إلى الفضاء الإلكتروني، الذي يجيد المتطرفون استخدامه في غفلة من المؤسسة الدينية التي ركزت طوال الفترة الماضية على الخطب التقليدية والفتاوى النمطية والآراء الدينية حول القضايا الجدلية، متجاهلة تغلغل التطرف في منصات التواصل. وسبق هذه الخطوة إطلاق دار الإفتاء المصرية مرصد الفتاوى التكفيرية، حيث تقوم من خلاله برصد ما يبثه المتطرفون على مواقع الإنترنت وشبكات التواصل والرد عليه بدراسات علمية ودينية مستفيضة، كما أنشأ الأزهر مرصد الأزهر للغات لتتبع ما ينشره المتشددون ويتم الرد عليه عبر لجان متخصصة بسبع
لغات أجنبية.
ولا ترغب وزارة الأوقاف في أن تتحوّل الساحة الإلكترونية إلى منابر بديلة عن المساجد، حتى لا تظهر أمام الحكومة في صورة المؤسسة المتخاذلة عن إحكام القبضة على المجال الدعوي بشكل تكون له تداعيات سلبية على الواقع الأمني والسياسي، بحكم أن متطرفي الإنترنت معروف عنهم العداء المسبق للسلطة عموما.
ويصطدم نجاح الإمام والداعية الحكومي في مواجهة العناصر المتطرفة على الفضاء الإلكتروني بتحجيم عمله بقائمة محظورات، بينها عدم التطرق إلى السياسة وتجاهل القضايا الجدلية، مع الالتزام بما يتفق مع رؤية وزارة الأوقاف في حسمها للموضوعات الدينية والاجتماعية المرتبطة بقرارات وإجراءات الدولة.
ويفتقد الأئمة والوعاظ في مصر الحد الأدنى من التحرر الفكري والديني عند الرد على حجج المتشددين، فهم ملتزمون باستراتيجية تضعها وزارة الأوقاف، ولا يحيدون عنها، ولا يكونون مستقلين في الرأي والتوجه، حتى لا يعرّض الشخص نفسه للمساءلة وربما الإقصاء من العمل الدعوي، ويتكلم بنبرة منسجمة مع ما يردده الخطاب الرسمي.
العبرة بالمضمون
من الطبيعي أن تنتقل نظرة المتلقي والمستمع لخطبة المسجد الروتينية إلى الفضاء الإلكتروني، فأغلبهم يستفتون المنتسبين إلى علم الدين على شبكات التواصل الاجتماعي، لأنهم خُذلوا في دعاة المساجد، ولا يجدون منهم ما يرضيهم ويتناسب مع الواقع الذي يعيشون فيه، وهذه معضلة كبرى لم تنتبه إليها المؤسسة الدينية أو تدرك سلبياتها المستقبلية.
صحيح أن الاستعانة بطاقات الشباب الذين تدربوا على التقنيات التكنولوجية يعد خطوة مطلوبة لتسهيل مهمة التواصل مع متصفحي الإنترنت من الشباب، لكن العبرة ليست في المتحدث، بل في مضامين حديثه وأفكاره وقناعاته والرؤى الدينية التي يؤمن بها وكذلك الجهة التي ينتسب إليها، أي الحكومة.
ويرى مراقبون أنه مهما بلغت خبرات وإمكانيات الشباب الدعويين الذين أطلقتهم وزارة الأوقاف في الفضاء الإلكتروني لمجابهة المتطرفين، فهم بحاجة إلى الثقل المعرفي والجرأة والاستقلالية عند الرد، لا الالتزام بإطار محدد مسبقا من جانب الوزارة، لأن ذلك يخسرهم معركة قبل خوضها لغياب أسلوب الإقناع عن الكثير منهم.
وتركز وزارة الأوقاف على مواجهة السلفيين الذين استغلوا الفضاء الإلكتروني الرحب ليكون منبرا بديلا عن المساجد التي طردوا منها ولم يصبحوا أئمة فيها، بعد أن حاصرتهم الحكومة بسلسلة من الإجراءات منعتهم من الخطابة والإمامة، ما دفعهم إلى مناكفة المؤسسة الدينية عبر منصات التواصل وتقديم أنفسهم على أنهم البديل المناسب للحصول على الفتوى والرأي بعيدا عن أي تدخلات أو إملاءات، كما يحدث مع أئمة المساجد الذين تعينهم وزارة الأوقاف.
وقال سامح عيد، الباحث في شؤون جماعات الإسلام السياسي، إن معضلة أئمة الأوقاف، سواء بالمساجد أو الفضاء الإلكتروني، أنهم ملتزمون بخطاب ديني محدد سلفا وأجندة نمطية ولا يحيدون عنهما، ويتم فرض ذلك عليهم لتوصيله إلى الناس، بعكس العناصر المتشددة التي تبحث عن القضايا التي تشغل بال الناس واهتمامات الشارع لتنبش فيها وتستقطب هواة البحث عن حسمها دينيا.
وأضاف لـ”العرب” أن الدعوة الدينية البعيدة عن تطلعات الشارع لا تحقق الهدف المرجو منها، والكثير من القضايا التي يتحدث فيها الأئمة بعيدة عن طموحات واهتمامات المجتمع رغم كونه متدينا بالفطرة، ما يدفع كثيرين إلى البحث عن منابر أكثر تحررا واستقلالية، مثل المنصات التي تتطرق إلى المسائل الدينية الشائكة.
المعضلة الأخرى ترتبط بأن الدعاة الإلكترونيين معروف عنهم مسبقا أنهم يتبعون مؤسسة حكومية، ما يؤثر على أفكارهم وأسانيدهم ورؤيتهم إلى الموضوعات الدينية المطروحة على الفضاء الرقمي، وتزداد الأزمة عندما يستميت أيّ منهم في الدفاع عن رؤية الدولة في بعض القرارات والسياسات، باعتبار أن الدين عامل أساسي في توجهات وقرارات الناس.
تهافت الناس على الاستعانة بمواقع وصفحات إسلامية نتيجة طبيعية لتخاذل أئمة ودعاة وعلماء المؤسسة الدينية الرسمية عن حسم قضايا جدلية كثيرة
وطرحت دار الإفتاء استفتاء العام الماضي، على صفحتها الرسمية بموقع التواصل الاجتماعي فيسبوك، وسألت فيها جمهورها: ما الجهة المفضلة لديكم للحصول على الفتوى، هل الدار أم المواقع الدينية؟ فكانت الإجابة بنسبة 70 في المئة لصالح المنصات الرقمية، وهو ما يعكس حجم غضب الناس من سطحية الفتوى والدعوة التي تطلقها مؤسسات دينية رسمية.
وأكد عبدالغني هندي، عضو المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، أن منسوب التشدد على الفضاء الإلكتروني في تزايد مستمر، طالما ظل الخطاب الرسمي منغلقا ويفتقد التجديد، ما ترتب عليه تسريع المتطرفين من وتيرة الانتشار على أمل ضرب ثقة الناس في المؤسسات الدينية وتقديم أنفسهم على أنهم البديل الأكثر استقلالية.
وأوضح لـ”العرب” أن أغلب متصفحي المواقع الإلكترونية الدينية أو صفحات التواصل الاجتماعي التابعة لمتشددين ليسوا متطرفين، لكنهم يدخلون عليها من باب الفضول وحب المعرفة، والخطورة أن يقوم بعضهم بتغيير توجهاته اقتناعا بما تم بثه من مواد دينية حتى لو لم تكن لها علاقة بالدين، غير أنه يتم نسبها إلى التراث الذي لم ينقح بعد.
غياب الثقة

بغض النظر عن تبعية المواقع الإسلامية لأي فصيل ديني، فهي تعج بآراء في كل المجالات ويتم تقديمها بأسلوب سهل وطريقة بسيطة، رغم تشددها وما تحفل به من سموم فكرية، لكن انخفاض منسوب الوعي وارتفاع نسبة الجهل بين الناس وغياب الثقة في رؤى وطروحات المؤسسات الرسمية جعلها ملاذا للباحثين عن الفتوى.
ويرى متابعون أن تهافت الناس على الاستعانة بمواقع وصفحات إسلامية نتيجة طبيعية لتخاذل أئمة ودعاة وعلماء المؤسسة الدينية الرسمية عن حسم قضايا جدلية كثيرة، خشية تعرضها للصدام مع الحكومة أو الشارع، فهناك موضوعات متعددة ما زالت بحاجة إلى نقاش، وأمام هذه الوضعية تتحول منصات المتشددين إلى مرجعية.
ويعتقد هؤلاء أن إطلاق الدعاة والأئمة الإلكترونيين في الفضاء الرقمي خطوة مطلوبة، لكن تبقى المعضلة في أنها جاءت كردة فعل على تنامي نفوذ أصحاب الفكر المتطرف، وهو نفس الأسلوب الذي تتبعه باقي المؤسسات الدينية، إذ لا تسبق المتشددين بخطوات وتكفي بالرد عليهم من دون المبادرة بتوفير احتياجات الناس قبل لجوئهم إلى دعاة الشذوذ الفكري.
ومهما بلغت براعة الداعية الإلكترونية يظل ترويج المتطرفين لكونه جزءا من الدولة خطرا، لأنهم يهدفون إلى التشكيك في نواياه وقدراته وأهدافه، وهي إشكالية بحاجة إلى حل من خلال التمسك بالموضوعية كي لا تبدو الصورة مهتزة، والآراء مطعونا في استقلاليتها، وعلى الداعية الإلكتروني أن يتجنب الحديث بلغة الموظف كما يتكلم زميله على منبر المسجد، وهي الميزة التي يجيد أنصار أي تنظيم متشدد اللجوء إليها لضرب الخصوم وهزيمتهم معنويا.