الإمارات والإغاثة ودبلوماسية الخير

الإمارات لا تسأل عندما تشارك في أعمال الإغاثة إلا نفسها هي وتخاطب فيها روح المعاني لا روح السياسة، إنها أعمال تتعمد أن تضع السياسة جانبا لأن السياسة ليست هي المقصود أصلا.
الجمعة 2023/02/17
دبلوماسية تتسم بالجرأة

مثلما أن “الخير” كلمة عربية لا تضاهيها أي كلمة في لغات العالم الأخرى، فإن دبلوماسية الخير الإماراتية تقول الآن ما لا يضاهيه شيء آخر.

إنها دبلوماسية تتسم بالجرأة. لأن أصلها لا يعاني من التباسات. ولا تحدوه مشاغل جانبية قد تطغى عليه. تقول ما تقصد. وتقصد ما تقول. لأنها تأتي من عالم فكري واجتماعي واضح، لا يلتبس بشيء.

الخير لا يلتبس بما سواه. لا يعود خيرا إذا اختلط. والمرء يقوم به لأجل الخير نفسه. لا جزاء من بعده ولا شكورا. نعطي ونحن الرابحون.

لن تفهم هذا المعنى إلا إذا كنت تعرف الخير بلغته. تراه في ما هو فوق الطبيعي. لأن غايتك هي الغاية.

◙ ثمة ضوء يكشف للإمارات الطريق. يجعل كل الأشياء تجلس في مواضعها الصحيحة. ينير الخيارات. ويزيل الالتباسات

مليارديرات الدنيا يقومون بأعمال إنسانية كثيرة. يفعلونها لأجل أن تستشعر ذواتهم اكتفاء لا يأتي من أي سبيل آخر. تلك نفحة خير خفية في النفس البشرية، وقد لا يرون معناها القادم مما فوق الطبيعة، مما فوق الوجود الأرضي ومشاغله ومصالحه.

في العطاء لأجل الخير، هناك شيء أهم، وأبقى. وهذا هو الوجه الآخر.

لا تسأل الإمارات عندما تشارك في أعمال الإغاثة إلا نفسها هي. تخاطب فيها روح المعاني، لا روح السياسة. إنها أعمال تتعمد أن تضع السياسة جانبا. لأن السياسة ليست هي المقصود أصلا.

منحت أموالا وأعدت جسرا جويا ينقل المساعدات ومواد الإغاثة إلى سوريا وتركيا. وذلك على قدر ملفت من المساواة.

المساعدات لم تُعنَ بما إذا كان الطرف الذي يتلقاها سوف يتصرف بها بحسب مقتضيات العدل والمساواة أو مراعاة الحاجة. هو المسؤول، أمام نفسه وأمام ربه. والقرار ليس قراره فحسب، ولكنه مشكلته أيضا.

لا تهم الانتقادات والشكوك، حول ما إذا ذهبت المساعدات إلى سلطة لا تحظى بالكثير من الثقة. إذا كنت تريد أن تفعل الخير، فافعله لأجل نفسه، ولا تسأل. السؤال له مكان آخر. وحسابه حساب آخر. في المعركة بين الخير والشر، أنت تكسب مما تعطي. فقط قدّم ما تستطيع. ولو وصل القليل أو الكثير، إلى من تحب أو ترغب، فإنه مسألة أخرى، لا تُثار في مواكب الإغاثة العاجلة أصلا.

للمحبة ميدان، كما أن للسياسة ميدانا. ولكن المساعدات في المحن الإنسانية الكبرى لها ميدان جدير بأن يتجرد من كل الاعتبارات. الغاية فيه هي أن تمد يد الغوث. تصل إلى مَنْ تصل. ولكن اليد التي امتدت تعرف أنها وصلت غايتها، وأصابت الهدف الذي سعت إليه.

◙ عندما اختارت الإمارات "تصفير المشاكل"، كإستراتيجية شاملة، لا شك أنها كانت قد واجهت كل الأسئلة

الخير ليس لغزا، ولا أسرار فيه. أنت تعطي لأجل أن تعطي. نقطة رأس السطر. ولهذا السبب فإن دبلوماسية الخير تأتي من خارج حسابات السياسة. لا شيء فيها يتعلق بالتمييز. الأطفال السوريون الذين في العراء، سواء كانوا في المناطق الخاضعة لسيطرة النظام أو لسيطرة المعارضة، هم الأطفال أنفسهم. ولو أن السلطات أعطت حصتين لطرف وسمحت بواحدة للآخر، فهو خير أيضا. غدا تأتي شحنة أخرى. والجسر ممدود إلى ما تمتد به كل إمكانيات العطاء.

إيران تحتل أراضي تابعة للإمارات. وإيران تهدد هذا البلد عن طريق ميليشياتها، ولا تخجل من مسالكها العدوانية في المنطقة. وهي أرض زلزال أيضا. ولو حدث فيها ما حدث في تركيا، فالإمارات ستكون من بين أول الساعين إلى الإغاثة. لا يهمها من بعد ذلك، عندما تستفيق طهران من النكبة، أن تستأنف العدوانية نفسها. شيء غير مهم على الإطلاق. كلٌ يعمل بأصله. وكل يسعى إلى ما يسعى إليه. أما الخير، فمسعاه من نفسه. لا شيء من قبله، وليس مطلوبا من بعده جزاء ولا شكر.

والشيء نفسه يحدث مع كل أخ وصديق. مع كل عدو. بالاستقامة نفسها، وبالبساطة نفسها. لأن الطفل هو نفسه. ولأن روح المعنى هي نفسها. تجلس في مكانها عندك، أينما وضعتها عند الآخرين.

أرض السياسة تحتمل الاختلاف والتمييز. أرض الخير لا تفعل. لا ترى شيئا إلا نفسها.

ثمة ضوء يكشف للإمارات الطريق. يجعل كل الأشياء تجلس في مواضعها الصحيحة. ينير الخيارات. ويزيل الالتباسات.

عندما اختارت الإمارات “تصفير المشاكل”، كإستراتيجية شاملة، لا شك أنها كانت قد واجهت كل الأسئلة. أخضعت نفسها لكل التحديات، من قبل أن يتم الإعلان عنها كخيار لا لبس فيه.

الأسئلة والتحديات كان يجب أن تحظى بأجوبة تتسق مع هذه الإستراتيجية بثبات واستقامة. أي أنها كانت ستجيب على السؤال والآخر بمعيار واحد.

◙ الخير لا يلتبس بما سواه. لا يعود خيرا إذا اختلط. والمرء يقوم به لأجل الخير نفسه. لا جزاء من بعده ولا شكورا. نعطي ونحن الرابحون

دول عدة في المنطقة تختار الآن، أوجها من هذه الإستراتيجية. بعضها لأسباب اقتصادية. وبعضها لأسباب أمنية، أو لصنع توازنات استقرار.

الإمارات أخذت بالجوانب كلها. حملتها على محمل واحد. فصارت الأجوبة واضحة، من جميع الجهات، ومن أينما جاءت التحديات.

البعضُ رأى في هذه الإستراتيجية نوعا من “حياد سويسري”. إلا أنها ليست كذلك. إنها خيار أعمق من مجرد حياد بين طرفين متعاديين. لأنها قامت على تصور يقول إن التنمية الاجتماعية والاقتصادية هي الغاية من السياسة، وإنها قادرة على تليين الصعوبات وتهدئة الأزمات حتى يكتشف المتنازعون أن ما يمكن للمصالح والمنافع المشتركة أن تبنيه، أنفع مما يمكن التنازع حوله. والحلول تأتي عندما يتعالى المتنازعون عن تأزيم ما ينتفعون منه.

دبلوماسية الخير، إنما ولدت في هذا المجرى. فلم يعد بوسعها أن تسأل، أمام كارثة إنسانية كبرى كالتي واجهتها تركيا وسوريا، ما إذا كان يمكن التمييز بين ضحية وأخرى، أو بين رئيس تحبه وآخر لا تحبه.

ما تحبه الإمارات، هو قدرتها على أن تكون في طوع الخير. تعطي ما استطاعت، ولا تسأل.

فعلت ذلك لوقت طويل. فعلته من قبل أن تعيد صياغته في إستراتيجية معلنة. كان الأمر مسلكا اجتماعيا مألوفا. فصار أصلا من أصول السياسة وصانعا لخياراتها ودبلوماسيتها.

9