الإعلام والجريمة والفساد

الأربعاء 2017/07/05

في واحدة من استراحات قوائل هذا الصيف اللاهب، شاهدت على إحدى القنوات الفرنسية فيلما بديعا عن الصحافية الأيرلندية فيرونيكا غيرين التي قتلها بارونات المخدرات في ضواحي دبلن في السادس والعشرين من شهر يونيو 1996.

وقبل ذلك، كانت هذه الصحافية الجميلة الشقراء المولودة عام 1959 قد كتبت في “ساندي أندبندنت” سلسلة من التحقيقات المثيرة عن تجار المخدرات الذين أفسدوا حياة الشبان والمراهقين، ورفعوا معدل الجرائم إلى درجة لم يسبق لها مثيل.

وقد أغاظت تلك التحقيقات بارونات المخدرات فهددوها بالقتل في أكثر من مرة. وفي النهاية أرسلوا شابين ليقتلاها رميا بالرصاص وهي عائدة إلى بيتها.

وقد هزت تلك الجريمة البشعة المجتمع الأيرلندي، وأجبرت البرلمان على اتخاذ قرارات هامة للضرب على أيدي مروجي المخدرات، والحد من الجريمة المنظمة. وتكريما لها، سميت فيرونيكا غيرين “بطلة حرية التعبير” في عام 2000، وأقيم لها تمثال نصفي تخليدا لذكراها.

وليست فيرونيكا غيرين الصحافية الأولى التي قتلت بسبب جرأتها وشجاعتها. فهناك العديد من أمثالها في البلدان المتقدمة وفي البلدان المتخلفة لقوا نفس المصير، أو هم سجنوا أو تعرضوا لمظالم أخرى بسبب استبسالهم في التصدي للمجرمين، والمفسدين. وكان التونسيون يعتقدون أن الفساد الذي تفشى في المجتمع بصورة مخيفة في مطلع الألفية سينتهي بزوال حكم بن علي، ومحاكمة إخوة زوجته الذين حصلوا على ثروات هائلة بطرق غير مشروعة. إلاّ أن السنوات القليلة الماضية أظهرت أن الفساد في تونس ازداد استفحالا وانتشارا. فقد استغل المهربون والمرابون والمحتالون والمافيات ضعف الدولة، وفساد بعض المسؤولين في مؤسساتها الكبيرة ليصبحوا بين عشية وضحاها “أسيادا” يتنقلون في سيارات فارهة، ويسكنون الفيلات الفخمة، ويظهرون على القنوات التلفزيونية لإبراز غطرستهم، والتباهي بثرواتهم. بل إن أحدهم زعم من دون أن يرفّ له جفن أنه “اشترى ذمم” أغلب الصحافيين ليصبحوا “خدما طيعين”، يدافعون عنه، ويبطلون التهم الموجهة إليه، و”يطهرون سيرته” من كل ما يمكن أن يشوهها أو ينالها بسوء.

وكنا ننتظر أن يرد الصحافيون على هذه الاتهامات الخطيرة إلاّ أنهم لم يفعلوا. لذلك قد يكونون على حق أولئك الذين يوجهون أصابع الاتهام إلى البعض من الإعلاميين الذين قد يكونون متورطين في قضايا فساد. كما أن هناك إعلاميين يدعون الاستقلالية و”نظافة اليد”، إلاّ أن العديد من الوقائع والأحداث أثبتت أنهم يعملون لصالح البعض من الأحزاب، مبررين أطروحاتها الشعبوية، وأفعالها المعادية للوحدة الوطنية بمختلف الطرق والوسائل. وكل هذا يتم بـ”اسم حرية التعبير”.

كما نلاحظ أن المشرفين على برامج سياسية في القنوات والإذاعات يحاولون دائما وأبدا استرضاء أطراف تسعى إلى بث البلبلة والفوضى في البلاد، وإبعاد أطراف أخرى معروفة بنزاهتها وصدقها واعتدالها. وعندما يكف الإعلام عن القيام بالعمل المناط بعهدته، والمتمثل في كشف الحقائق، وتنوير الرأي العام، وفضح المفسدين، والمتآمرين على هيبة الدولة، والعابثين بمصالح الشعب، فإنه يكون قد خان نفسه بنفسه، ليصبح إعلام العار والفساد والجريمة ووسيلة لتمزيق أوصال الوطن والرمي به في أتون النعرات القبلية والنزاعات المذهبية. لذا أعتقد أن تونس الآن في حاجة إلى الكثير من الصحافيين، أمثال فيرونيكا غيرين ليكون لـ”ثورة الحرية والكرامة” مغزى ومعنى!

كاتب تونسي

18