الإعلام المصري يفرمل الإعلانات المصدرة لبؤس المجتمع

رصد المشاهدون تراجعا واضحا في إعلانات المؤسسات الخيرية والحكومية وطلب التبرعات من الناس من خلال الفضائيات، مع رفض الحكومة لاستمرار ظهور المجتمع في وسائل الإعلام في صورة تبرزه يعاني الفقر وسوء المعيشة والإنهاك الصحي والتعليمي.
القاهرة - غابت الكثير من المضامين المسيئة في إعلانات التبرعات خلال شهر رمضان بمصر في غالبية وسائل الإعلام، ما يحمل رسالة تؤكد على رغبة الحكومة تثبيت رؤيتها الشاملة تجاه حقوق الإنسان، ونجاحها في مهمة مكافحة الفقر والعوز وتحسين الظروف المعيشية للبسطاء، عكس ما كان يروج له ما عرف بـ”إعلانات التسول” في أعوام سابقة، كثرت فيها حملات حض الناس على التبرع للبسطاء.
ويتناغم التوجه الإعلامي نحو فرملة إعلانات كانت تبعث على اليأس والإحباط وفقدان الأمل، مع سياسة الحكومة التي تجاهد لإقناع الشارع بتراجع معدلات الفقر بفضل برامج الحماية الاجتماعية العديدة، ما انعكس بالتبيعة على تراجع إعلانات التبرعات.
وثمة رفض واضح من الحكومة لاستمرار ظهور المجتمع في وسائل الإعلام بأي طريقة، بأنه يعاني الفقر وسوء المعيشة والإنهاك الصحي والتعليمي، حيث تتعامل مع هذه القضايا كأساس حقوق الإنسان وأي تقصير فيها في غير صالحها سياسيا.
وحسم النظام المصري موقفه بشأن ملف حقوق الإنسان بأنه خدمي تنموي دون النظر للاعتبارات السياسية أو الرؤى التي تتمسك بها منظمات محلية ودولية وحكومات غربية، ما جعل الحكومة تراجع نفسها بشأن “إعلانات التسول” وما يترتب عنها من نتائج سلبية في توجهها الحقوقي العام فإذا لم يشعر المواطنون بتحسن ملموس تجهض رسالتها تلقائيا، والإعلام هو الجهة التي تنقل الصورة، ومواصلة حث الناس على التبرعات يعني أن أجهزة الدولة غير قادرة الوفاء بدورها الإنساني.
شهر رمضان من كل عام ظل موسما لإعلانات الجمعيات الخيرية والمنظمات والهيئات والأحزاب لطلب التبرعات
ويمكن بسهولة رصد التراجع الواضح في إعلانات المؤسسات الخيرية والحكومية وطلب التبرعات من الناس من خلال الفضائيات، من خلال الغياب شبه التام لمشاهد الطعام والشراب ومستلزمات المعيشة والملابس المقدمة للفئات المهمشة، من قبل أحزاب وشركات ورجال أعمال، حققوا شهرة من وراء ظهورهم في الإعلانات.
وظل شهر رمضان من كل عام موسما لإعلانات الجمعيات الخيرية والمنظمات والهيئات العمومية والعديد من الأحزاب السياسية لطلب التبرعات، واستحوذت على النسبة الكبيرة من إعلانات، وبعد التأكد من أن محتواها أساء لصورة الدولة والمجتمع بدأت تتراجع، وتكاد تكون تلاشت هذا العام من معظم الفضائيات، وحلّت إعلانات المنتجعات والبنوك التي توحي باتساع نطاق الرفاهية والرخاء في مصر.
وعبّر التوسع في إعلانات التسول عن غياب لدور الحكومة المصرية في الحد من الفقر طوال السنوات الماضية، ما جعل دوائر سياسية وإعلامية تتدخل لضبط إيقاع إعلانات رمضان، لمنع تشويه ملامح الدولة، وتبدو كأن فئة كبيرة من سكانها تعيش حياة فقيرة.
يعتقد خبراء أن تحجيم المحتوى الإعلاني الذي يصدر البؤس للجمهور، كان مطلوبا لتثبيت مصداقية الإعلام عندما يتحدث عن إنجازات الحكومة وجدوى الإصلاحات التنموية وأهمية البرامج الاجتماعية التي تقدمها للبسطاء.
تحجيم المحتوى الإعلاني الذي يصدر البؤس للجمهور، كان مطلوبا لتثبيت مصداقية الإعلام عندما يتحدث عن إنجازات الحكومة وجدوى الإصلاحات التنموية
ولم يكن بوسع الإعلام أن يستمر في تقديم إعلانات تُظهر الفقراء في صورة تسول الغذاء، في حين أن هناك توجها حكوميا بأن يضاعف الإعلام من جرعات التفاؤل بين الناس، ويقنعهم أن الظروف المعيشية في تحسن مستمر.
ظل تقديم مصر في صورتين متناقضتين خلال إعلانات رمضان مثيرا للغضب والسخرية، فهناك محتويات إعلانية تُبرز مصر الجميلة التي ينعم سكانها برفاهية ويسكنون المنتجعات، وأخرى فقيرة تجمع تبرعات للطعام والعلاج والسكن الآدمي.
والمشكلة أن الإعلام المصري عندما خفض جرعة إعلانات التبرعات إلى الحد الأدنى، استبدلها بأخرى تتحدث عن مصر التي تبدو كأنها خالية من الفقراء، حيث جرى تكثيف بث محتوى إعلاني يستهدف الفئات المقتدرة ماديا.
وأثارت الإعلانات الترويجية التي تستهدف الأغنياء موجة استهجان واسعة، لأنها تروج لأماكن يتطلب العيش فيها أرقاما مالية فلكية، ويتحدث سكانها عن متعة الحياة التي لا ينعم بها المنتمون للشريحة السكانية الأكبر في المجتمع.
ويرى خبراء الإعلام أن إعلانات رمضان أزاحت الستار عن ازدواجية الكثير من المنابر الإعلامية وانفصالها عن الواقع، وكشفت عن خلل طبقي ومهني باعتماد النسبة الأكبر من المحتويات الترويجية على أسلوب استفزازي في تقديم المنتج دون مراعاة لمعاناة شريحة كبيرة من الناس تعاني للوصول إلى حد الكفاف في المعيشة.
ويفترض تراجع إعلانات الفقر ألا يعطي لوسائل الإعلام مبررات كي تنفصل عن سياق المجتمع، ويصل الأمر بتجميل الصورة وتحسين الواقع حد إنكار وجود بسطاء، والإيحاء بأن الأغلبية صارت ظروفها أفضل وتعيش في النعيم.
لا تزال هناك نوعية محدودة من إعلانات التبرعات، تقتصر على دعوة المقتدرين للتبرع لمستشفيات القلب والسرطان
وإذا كان الإعلام المصري لديه أجندة واضحة بنشر ثقافة التفاؤل عند الجمهور، فالمهنية تقتضي التعامل مع ذلك بحكمة من دون إنكار حقيقة يعيشها جزء كبير في المجتمع وهي تتعلق بصعوبة مستوى الظروف المعيشية وتصاعد حدة الأزمة الاقتصادية، بما يفرض عقلانية ورصانة الإعلانات.
يغيب عن الكثير من المنابر الإعلامية أن عدم بث إعلانات التبرعات لا يجب أن يقابله بث أخرى مناقضة كليا، وتركز على الرفاهيات المبالغ فيها، لأن المحتوى الذي يقدم التسول ونقيضه الغارق في الاستمتاع بالحياة ونعيمها يضاعفان الإحساس باليأس.
ولدى فئة معتبرة من الجمهور قناعة بأن اختفاء إعلانات التبرع للطعام والشراب والعلاج لا يعني أن المصريين يعيشون في نعيم، وكل ما في الأمر أن الحكومة تريد القول إنها عندما تدخلت بمساعدات وبرامج لم تعد هناك قيمة لإعلانات التسول.
ويصعب إقناع جمهور الإعلام التقليدي في مصر بهذه الرسالة، وإن كانت هناك راحة نفسية لغياب مشاهد التسول على الفضائيات، حيث اعتادت ابتزاز الناس بالظروف القاسية للبسطاء، ما يفرض التعامل مع همومهم بواقعية وليس بإعلانات خيالية.
ولا تزال هناك نوعية محدودة من إعلانات التبرعات، تقتصر على دعوة المقتدرين للتبرع لمستشفيات القلب والسرطان، وهذه قائمة بالجهود الذاتية، وتتسم إعلاناتها بالهدوء والتحضر والمباشرة، وتحث الجمهور على فعل الخير بلا إحراج للحكومة أو إظهارها مقصّرة في واجباتها.
قال صفوت العالم أستاذ الإعلام السياسي بجامعة القاهرة إن استمرار الإعلانات المثيرة لمشاعر الناس يشكك في الخطاب الإعلامي حول الإصلاحات وبرامج الحماية الاجتماعية التي تستهدف القضاء على الفقر، وطالما هناك دور متصاعد للدولة في هذا الأمر فلا جدوى من حملات التبرع المبالغ فيها إعلاميا.
وأضاف لـ”العرب” أن التدخل لتحسين المحتوى الإعلاني المرتبط بالتبرعات كان مطلوبا، إذ يقدم بطريقة مثيرة للاستهجان، ويصل الأمر حد الابتزاز وتشويه صورة المجتمع، ومهما كان البسطاء بحاجة للدعم فلا يبرر ذلك المبالغة في البؤس.
يمكن تفسير التخفيف من الإعلانات المسيئة للبسطاء بأن هناك تصورا يتم الترويج له إعلاميا، مفاده أن الجمهورية الجديدة التي يسعى الرئيس عبدالفتاح السيسي لتثبيت أركانها، مغايرة لما عاصره الناس من قبل، ولن تكون مشاهد الفقر والجوع والمرض هي الأساس، بل التحضر والرقي والانتعاشة وهي الرسالة التي حاولت الإعلانات الترويجية الحالية أن تقنع المصريين بها.