الإعلام التونسي مشغول بخصومات السياسيين بدل رفع وعي الناخبين

مؤسسات استطلاع الرأي في تونس لا تهتم بتحديد كفاءة الفئة المستجوبة حيال المشهد الإعلامي المحلي.
الاثنين 2019/04/29
هموم المواطن لا تعني كثيرا الصحافة

تعيد مؤسسات استطلاع الرأي إنتاج أخطاء وسائل الإعلام في تونس، فالأولى تنتقي عينات لا نعلم عن دقتها شيئا في عمليات الاستطلاع دون الالتفات لكفاءة الناخب أو المستجوب ودرجة إدراكه للمفاهيم السياسية، والثانية تنشر النتائج متجاهلة مسؤوليتها عن عزوف الناخبين عن الاهتمام بالشأن العام.

تونس - يقول جورج غالوب، الذي اقترن اسمه باستطلاعات الرأي، ساخرا إنه يمكنه أن يثبت بالإحصاء ما لا يُثبت به. ولا يمكن ألاّ نذكر ذلك القول عندما نطلع على استطلاع الرأي الذي نشره المعهد الجمهوري الدولي في مارس الماضي وأفاد بأن 59 بالمئة من التونسيين يرون أن أكثر ما يثير قلقهم هو الوضع الاقتصادي في البلاد، في حين أن 52 بالمئة منهم يرون في جواب عن سؤال آخر، أن وضع أسرهم الاقتصادي الحالي إلى الجودة أقرب.

كثر الحديث في تونس عن عمليات استطلاع الرأي ووجهت تهم كثيرة إلى المؤسسات التي تنجزها حتى أنها أصبحت مثار سخرية وتندر على الشبكات الاجتماعية. وأصبحت إحداها في أذهان التونسيين رمزا للتلاعب بالرأي العام. والواقع أن ما قيل وما نشر عن استطلاعات الرأي كان كله متصلا بمؤسسات الاستطلاع وطرق عملها ونتائجها دون التطرق إلى ما يثيره حال المستجوَبين من مشاكل أو ما اصطلح عليه بكفاءة الناخب أو المستجوب.

ويتخذ الباحث الفرنسي بيار بورديو موقفا من استطلاعات الرأي يشبه الإنكار وهو موقف يتصل أساسا بالمستجوبين أنفسهم. ويرى أنه من العبث افتراض أن الكل قادر على إنتاج آراء تستحق الاستطلاع. كما يرى أن افتراض ذلك لا يقود بالضرورة إلى تساويها قيمة. ويثير الباحث كذلك تساؤلا معرفيا عن طبيعة المشاكل التي تكون محور الاستطلاع بالقول إنه لا يمكن أن يكون هناك إجماع حول تحديد طبيعتها.

وحتى دون الذهاب إلى ما ذهب إليه بيار بورديو، لحاجة الديمقراطيات الملحة إلى استطلاعات الرأي، فإن حال الرأي العام أو كفاءة الناخبين في تونس تدعو إلى التساؤل عن مواضيع مهمة أثارها باحثون كثر وعلى رأسهم الباحثون الأميركيون بدءا من ثلاثينات القرن الماضي إلى اليوم.

وهناك اتفاق واسع على ما يسمى “نموذج الحد الأدنى” (باراديم) الذي يشترط أربعة حدود دنيا في المستجوبين ليكون لنتائج استطلاعات الرأي معنى يعتد به، وهي الحد الأدنى من الاهتمام بالشأن العام والحد الأدنى من إدراك المفاهيم المستخدمة في الاستطلاعات والحد الأدنى من الثبات على المواقف والحد الأدنى من الاتساق بينها.

كفاءة المستجوبين أو الناخبين في إدراك المفاهيم من كفاءة المحيط نفسه المتمثل أساسا في الإعلام وفي الفاعلين السياسيين

إن الحديث عن تلك الحدود الدنيا لا يعني أنه وجب تقييم الناس قبل الاستطلاعات، فلا معنى لذلك. كما أنه لا يعني ترك استطلاعات الرأي، إذ لا ديمقراطية إلاّ بها، بل الانتباه إلى تلك الحدود عند إجراء الاستطلاعات وتحليل البيانات وعند التعامل معها إعلاميا. ومن بينها اثنان يتصلان اتصالا وثيقا بالإعلام وهما اهتمام الناس بالشأن العام وإدراكهم لمفاهيم تدور حول ذلك مثل المعارضة والعتبة الانتخابية وطبيعة القوانين الانتخابية في علاقتها بالديمقراطية.

لقد أظهرت استطلاعات أن التونسيين لا يهتمون إلا قليلا بالشأن العام حتى في الظروف المصيرية. يذكر استطلاع للمعهد الجمهوري الدولي في 2014 أنّ 46 بالمئة من التونسيين لم يسمعوا شيئا عن أعمال المجلس الوطني التأسيسي التي امتدت على أكثر من عامين وأفرزت دستورا جديدا للبلاد.

ويؤكد هذا الأمر استطلاعا أجرته مؤسسة “بر الأمان” في 2018 يذكر أن 44 بالمئة منهم لا يتابعون الحياة السياسية مطلقا.

ومن البديهي القول إن استطلاعات الرأي تدور حول الشأن العام الذي لا يهتم به إلا قليل. فكيف نسأل أفرادا عما لا يهتمون به إلا نادرا أو أبدا؟ هي معضلة حقيقية تثير مسؤولية الإعلام في عزوف الناس عن الحياة العامة. وإذا كان الإعلام لا يتحمل المسؤولية كاملة فإنه يحق السؤال عن طبيعة المضامين التي يعرضها على الناس وعما إذا كانت تستجيب لتطلعاتهم.

ولا نحتاج إلى جهد كبير لبيان أن المضامين الإعلامية المعروضة على التونسيين هي في معظمها ترديد لخصومات السياسيين وفي قليلها اهتمام بمشاغل الناس الحياتية اليومية. وتبرز هنا مسؤولية السياسيين الذين يكون حديثهم في أغلبه عن الحكم، وما مداولات البرلمان إلا دليل على ذلك، الأمر الذي يقود الصحافيين إلى الوقوع في فخ مصادرهم لينسجوا على منوالها.

وكفاءة المستجوبين أو الناخبين في إدراك المفاهيم من كفاءة المحيط نفسه المتمثل أساسا في الإعلام وفي الفاعلين السياسيين وفي منظمات المجتمع المدني. ففي استطلاع الرأي المشار إليه في مطلع المقال سؤال عن رأي التونسيين في العتبة الانتخابية أجاب عنه 21 بالمئة بألاّ رأي لهم في المسألة. ويعلم أهل الاختصاص في استطلاعات الرأي أن تلك النسبة مرتفعة ارتفاعا مخجلا يدعو عادة إلى ترك السؤال عند الحصول على مثل تلك النتيجة.

وهناك مفاهيم أخرى أبسط من العتبة غامضة في الأذهان منها مفهوم الميزانية والفرق بين المسائل الاقتصادية والمالية ونسب النمو والديون والتضخم وتعويم الدينار إلى غير ذلك مما لا يحصى ولا يعد. في أغسطس 2018 سأل صحافي نائبة عما إذا كانت تقبل عرض تقرير الحريات على الاستفتاء فقالت “إن الشعب التونسي لم يبلغ مستوى من الوعي حتى نلجأ إلى الاستفتاء كوسيلة للاختيار الديمقراطي” الأمر الذي أثار جدلا واسعا وعقيما.

إن في تلك الحادثة ثلاث عبر، أولاها أن الصحافي والنائبة لا يعلمان أن الاستفتاء من صلاحيات رئيس الجمهورية وحده ولا يخص إلا مشاريع القوانين المصادق عليها وثانيتها ادعاء نائبة ألاّ كفاءة للناخبين وثالثتها انسياق عدد في الجدل حول مشكلة لا معنى لها. مثل تلك الحادثة تبين وقع درجة كفاءة الناخب أو المستجوب على قيمة نتائج استطلاعات الرأي.

صحيح أن التونسيين بصدد اكتشاف خبايا اللعبة الديمقراطية وصحيح أنه لا يمكن التخلي أبدا عن الاستطلاعات لدورها في فهم الحياة السياسية، غير أن ذلك يكون في الوقت نفسه مدعاة إلى الاجتهاد في رفع كفاءة الناخبين عبر مضامين إعلامية عامة أو متخصصة للتبسيط والتفسير وعبر حملات ومنتديات تتبناها منظمات المجتمع المدني والأحزاب وعبر دورات تدريبية وحتى تعليمية. فهل في المقررات التعليمية التونسية تربية على الديمقراطية؟

Thumbnail

إن في دقة المعلومات والبيانات والأخبار ودقة المضامين الإعلامية عامة ضمانة للحد الأدنى من الثبات على المواقف. ولا يُقصد بالثبات على المواقف أن يلتزم أحدهم بموقف ما يلزمه حتى مماته بل القصد هو ألاّ يبدل الناس مواقفهم بين عشية وضحاها.

ومثال عن ذلك أن 19 بالمئة من المستجوبين قالوا في استطلاع المعهد الجمهوري إنهم صوتوا لحزب حركة النهضة في الانتخابات المحلية التي جرت في مايو 2018 والحال أنهم كانوا أكثر من 28 بالمئة. قد يكون الخطأ ناتج عن تقدير في حسابات المعهد أو في اختيار العينة وإن كان الأقرب للظن هو تغيير في مواقف الناخبين.

وأيا كان الدافع فالنتيجة واحدة في تقدير نتائج استطلاعات الرأي والاستفادة منها. إن فارقا بنحو تسع نقاط في استطلاع رأي بين ما جرى فعلا وما قيل لاحقا في ظرف سبعة شهور لا يمكن إلاّ أن يقود الصحافيين والفاعلين السياسيين إلى استنتاجات في غير محلها وقد يبطل أصلا جدوى تلك الاستطلاعات في النقاش العام.

غريب أمر الاستطلاعات أحيانا غرابة التونسيين الذين يعتقد ثلثهم أن أكبر مشكلة في البلاد هي تردي الظروف الاقتصادية، في حين أن أكثر من نصفهم يرى أن وضع عائلته مريح اقتصاديا. يقولون إنهم يصوتون أولا بالنظر إلى برامج الأحزاب وهم يقرون بأنهم لا يتابعون الحياة السياسية إلا نادرا. وعندما يُسألون عن مشاغلهم ترى أن 1 بالمئة فقط يتحدث عن غياب الأمن، لكن عندما تعرض عليهم قائمة لفهم دوافع تصويتهم في انتخابات أكتوبر 2019 يصبح الهاجس الأمني في المرتبة الأولى بنسبة 89 بالمئة.

ليست هي طبيعة التونسي وحده فطالما حيرت كفاءة الاتساق في المواقف عند الناخبين الكثير من الصحافيين والسياسيين. ففي عدد من الاستطلاعات في أوروبا وفي أميركا الشمالية يكون المستجوبون مع إعطاء المسلمين حقهم في ممارسة شعائرهم الدينية ويرفضون بناء مساجد في أحيائهم أو يكونون مع الحرية المطلقة في ممارستها ويدعون إلى تشديد الرقابة على المساجد. الأمر هنا كما هناك من حيث كفاءة الناخبين غير أن بعض الفرق يمحى بما يفعلونه للرفع من الكفاءة وما لا نفعله نحن.

18