الإعلام التونسي: فشل في إرضاء السلطة ولم يفز بثقة الجمهور

يثير الرئيس التونسي قيس سعيد في تصريحاته الغاضبة من أداء الإعلام أزمة طال أمدها اشتكى منها الجمهور التونسي الذي عبر مرارا عن استيائه من الإعلام وفقدان الثقة به، وطالب بإصلاحه وتطهيره من المال الفاسد.
تونس - انتقد الرئيس التونسي قيس سعيد أداء الإعلام ووجود أقلام استفادت من الدعم الحكومي بهدف إصلاح الإعلام بينما تتبنى أجندات خارجية، في تصريحات جديدة تكشف أزمة الإعلام في البلاد الذي لطالما تردد أنه فقد البوصلة وثقة الجمهور دون أن يحظى برضا الحكومة. ويعاني المشهد الإعلامي التونسي من غياب الصورة الواضحة، والهوة الواسعة بين المحتوى المقدم وتطلعات الشعب التونسي.
واتهم سعيد عددا من المحللين والخبراء بعدد من وسائل الإعلام بالاستفادة من هبة بقيمة 40 مليون دينار (الدولار = 3.2 دينار تونسي) باسم إصلاح الإعلام، تم تقديمها من قبل شركة إلى رئاسة الحكومة في عام 2017، واصفا إياهم بالمرتزقة الذين يقدمون التحاليل الكاذبة.
وقال سعيد في اجتماع رفيع المستوى حضرته رئيسة الحكومة نجلاء بودن ووزراء العدل والدفاع والداخلية وقيادات أمنية وعسكرية عليا ”المتباكون على حرية التعبير ليست لديهم حرية التفكير، بل هم مرتزقة لن أقول الأسماء وسيعرفون أنفسهم”. وأضاف ”لا هم محللون ولا هم خبراء بل مرتزقة ارتموا في أحضان الخارج أسماؤهم أمامي”، متّهما إيّاهم بتقديم التحاليل الكاذبة والافتراء.
ويثير الرئيس التونسي مشكلة الإعلام التونسي الذي يواجه انتقادات واسعة ليس فقط من قبل الحكومة، بل أيضا من قبل شريحة واسعة من الجمهور الذي عبر مرارا عن استيائه من الإعلام وفقدان الثقة به، وطالب بإصلاحه وتطهيره من المال الفاسد. ولطالما كان هناك رابط قوي بين المال والإعلام أثناء الحملات الانتخابية في السنوات الماضية.
وقدمت العديد من وسائل الإعلام التونسية طيلة السنوات الماضية عددا كبيرا من الوجوه السياسية والاجتماعية والمدنية وما يعرف بالمحللين والمعلقين الصحافيين “الكرونيكور” بلا حسيب مهني أو رقيب، فتحولت في أغلبها إلى حلبة صراع سياسي ومالي وتصفية حسابات.
و”الكرونيكور” في الأصل عبارة عن ضيف ثابت للبرامج التلفزيونية يقدم ركنا يوميا أو أسبوعيا بطريقة جادة أو هزلية، لكنه في البرامج التلفزيونية التونسية أصبح رأس مال رمزي يستثمره مقدم البرامج أو صاحب المحطّة التلفزيونية لضمان أكبر نسب من المشاهدة.
وتطور الأمر إلى درجة وصفه الكثيرون بأنه جرعة زائدة على الجسم الصحفي التي تستدعي تعديلا سريعا، لكن الأمر بقي على ما هو عليه. ويعيد الرئيس سعيد بانتقاداته الحديث عن أزمة إصلاح الإعلام التي بقيت مجرد محاولات ومثار تجاذبات إعلامية وسياسية وكل جهة ترمي كرة المسؤولية على الجهة الأخرى.
فقد عاشت مؤسسات الإعلام العمومي إما تخبطا تسييريا بعدم الاستقرار الإداري أو عشوائية في برامج الإصلاح واجتمع العائق السياسي مع العائقين المهني والإداري وعدم وضوح الرؤية النقابية والتعديلية وخلطها أحيانا بين النقابي والمهني في خلخلة الأوضاع المتأزمة أصلا.
وتتحمل هذه المؤسسات الإعلامية ثقل كتلة الأجور وتضخم الموارد البشرية وقدم القوانين والأنظمة الأساسية مع حالة الاحتقان الاجتماعي والمهني، لذلك تعتبر أي محاولة إصلاح أو تطوير المضامين الصحفية في مهب الريح.
ومنذ العام 2011 فتحت ورشات تدريب وتكوين أمام صحافيي القطاع العام محليا وخارجيا كأحد مفاتيح الإصلاح الأساسية واستحدثت أطر تنظيمية مهنية كمجالس التحرير ومواثيق التحرير ومدونات السلوك، لكن كل ذلك لم يصل إلى عمق المشكلة المهني والتنظيمي.
وتناول الرئيس التونسي برنامج دعم الإعلام في تونس الذي امتد لثلاث سنوات منذ 2017 والممول من قبل الاتحاد الأوروبي بأكثر من 10 ملايين يورو، فقد نظم خلال سنة واحدة مثلا أكثر من 70 دورة تدريبية لفائدة أكثر من 570 مشاركا وأنجز 10 دراسات حول تطوير الإعلام الوطني والمحلي، لكنها نتيجة هذا التدريب مدونة في شهادة التكوين الشخصي فقط بدل الواقع المهني وغابت كل آليات المتابعة والتنفيذ.
وخلال السنوات الأخيرة تم تنظيم نحو 200 ورشة وندوة محلية ودولية تحت عناوين مختلفة تتعلق بإصلاح الإعلام العمومي ولم تغادر جل توصياتها أو برامجها قاعات تنظيمها لتبين مرة أخرى تحمس الخطاب مقابل الواقع، فتجربة عقد الأهداف والوسائل الذي تم توقيعه في الثلاثين من أغسطس عام 2019 بين ثلاثة أطراف هي التلفزيون التونسي والهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي والبصري “الهايكا” ورئاسة الحكومة وفق جدول زمني للإصلاح.
أما الإعلام الخاص فبعد شرعنة التعددية السمعية والبصرية سادت متغيرات متواترة المشهد طيلة هذه العشرية ففتحت محطات وقنوات وأغلقت أخرى وغاب الأمان الاجتماعي لطيف واسع من الصحافيين المشتغلين، وانحدرت بعض المضامين الصحفية مع غياب أدوات التعديل الذاتي والأخلاقي إلا في استثناءات قليلة.
ونشطت مؤسسات خارج سيطرة هيئة الاتصال السمعي البصري (الهايكا) المنظمة للانتشار الإعلامي ودارت جل المؤسسات حول سطوة رأس المال الفاسد والسياسيين والأحزاب.
وأكّد رئيس الهيئة العليا المستقلة للإعلام السمعي والبصري النوري اللجمي، خلال حضوره أشغال المؤتمر الوطني للسياسات العموميّة في الإعلام قبل أسبوعين، أنّ الفترة الحاليّة صعبة جدّا على قطاع الإعلام في ظلّ عدم وضوح الرؤية وعدم وجود إطار قانوني يضمن حرية الإعلام والتعبير.
200
ورشة تحت عناوين مختلفة تتعلق بإصلاح الإعلام لم تغادر توصياتها قاعات تنظيمها
وأضاف أنّه لا يمكن توفّر ذلك دون مناخ سياسي واضح خاصة وأنّ الفترة الحاليّة صعبة وتشهد العديد من التعثرات، وذكر على سبيل المثال غموض الرؤية الخاصّة بـ”الهايكا” التي تجاوزت مدّتها القانونية بالإضافة إلى عدم وجود قانون جديد للهيئة وللصحافة والنشر.
وبيّن اللجمي أنّه تمّ التطرّق إلى الموضوع مع رئاستي الجمهورية والحكومة.. وطلب أيضا إحالته على التقاعد لبلوغه السنّ القانونيّة ولكن لا توجد أيّ إجابة أو أيّ رؤية واضحة لذلك.
وسبق أن اعتبر الرئيس قيس سعيد أن التطاول على الدولة ورموزها ليس من قبيل حرية التعبير، بل يراه مسّا بأمن تونس وضربا بوحدتها، وقال إن الديمقراطية يجب أن تمارس داخل مؤسسات الدولة، ولا يمكن أن تكون موجهة ضد وجودها ووحدتها، في إشارة إلى المتطاولين حسب تعبيره، والذين توعدهم.
وأضاف أن من يلعب دور الضحية اليوم هو من ضرب الدولة وحاول بكل الطرق تفكيك مؤسساتها، وأنه لا يمكن أن يقدم نفسه منقذا.
والأزمة التي تولد أخرى في الإعلام العمومي والخاص والمصادر دفعت إلى إطلاق دعوات ببناء سياسة عمومية تشاركية تجمع كل الأطراف (المهنيين، الدولة، القطاع الخاص) لتحديد بوصلة الإصلاح المرغوب وتفيد توصيات الخبراء والمهنيين بضرورة امتلاك الدولة لسياسة عمومية واضحة في مجال الإعلام مثل امتلاكها لسياسات تتعلق بالصحة والتعليم والنقل.
ورغم تعاقب الحكومات، فإن الإعلام ظل ورقة مخفية تسحب وفق الظرف والسياق وتشوبها الحلول الترقيعية والمؤقتة بدل طي ملفها نهائيا وحسمه مع لجنة التصرف في الأملاك المصادرة.