الإستوني إدوارد فيرالت يخلد مشاهد رائعة من المغرب الجميل

فنان انبهر بجمال المغرب ومدينته مراكش فأصبح صوتهما.
السبت 2024/04/13
صورة لإدوارد فيرالت في مرسمه

زار الفنان الإستوني إدوارد فيرالت المغرب وغادره دون أن تغادره ملامح الحياة فيه ومميزات أناسه وسلوكياتهم، فأعاد توثيقها في أعماله الفنية التي سافر بها إلى مختلف مناطق العالم، وأصبح واحدا من أهم أصوات المغرب وسفرائه الفنيين.

خلال أواخر ثلاثينات القرن الماضي زار الفنان الإستوني إدوارد فيرالت مدينة مراكش، فأعجبته، وقرر الاستقرار فيها لما يناهز السنة بأحد أحيائها العريقة في المدينة العتيقة. وعن هذا العبور الخاطف والمتميز بالمدينة الحمراء، خلف لنا هذا الفنان باقة من اللوحات والنقوش الفنية الجميلة، المفعمة بالدفء والحيوية، والتي تخلد مشاهد من الحياة اليومية المغربية.

ولد الرسام والنحات فيرالت، والذي ينطق اسمه آخرون ويرالت، يوم 20 مارس 1898 بمدينة تسار سكوي سيلو، التي تعني قرية القيصر، والتي تسمى حاليا مدينة بوشكين، القريبة من مدينة سان بطرسبورغ بروسيا. وكان أبواه أنطون وصوفي – إليزابيث يشتغلان خادمين في ضيعة إقطاعية، لكن ما لبثا أن رحلا رفقة أبنائهما الثلاثة للاستقرار بمقاطعة جارفاما وسط إستونيا، وكان الأبوان يطمحان لأن يصبح ابنهما إدوارد رساما. لذلك أرسلاه سنة 1915 إلى الدراسة في مدرسة الفنون والمهن بمدينة تالين. ونظرا لظروف الاحتلال الألماني الغاشم لم يتمكن فيرالت من إتمام دراسته بهذه المدينة، ولكونه فنانا ملتزما بقضايا وطنه العادلة فقد انخرط في صفوف المقاومة الإستونية لتحرير البلاد من نير الاستعمار الأجنبي.

وفي سنة 1919 انتقل هذا الفنان إلى مدرسة الفنون الجميلة “بالاس” بمدينة تارتو، حيث درس النحت على يدي النحات أنطون ستاركوبف. وبعد سنتين من هذا التاريخ حصل على منحة لمتابعة دراسته في مدرسة الفنون الجميلة بدريسد في ألمانيا، ما مكنه من تملك وإتقان فن النحت. وكانت أعماله، أثناء هذه الفترة، متأثرة ببصمة الرسام والنحات الألماني أوتو ديكس، الذي وثق إكراهات الحياة اليومية وبشاعة وخراب المدينة بعد الحرب العالمية الأولى.

حياة منذورة للفن

◙ لوحة "الرجل الهرم"
◙ لوحة "الرجل الهرم"

وخلال الفترة الممتدة بين 1924 و1929 أنجز هذا الفنان رسومات توضيحية لمؤلفات عدة كتاب ومبدعين، نذكر من بينهم: جوهان جايك، وإدوارد تينمان، وجاكوبكورف، وهانز كروس، وفرنسوا مورياك، وألكسندر بوشكين، وجيروم بوش، وسباستيان برانت، إضافة إلى جيوفاني بوكاتشيو. وفي سنة 1925 حصل على منحة من مؤسسة الفنون الزخرفية الإستونية، ما مكنه من متابعة تكوينه الأكاديمي في مجال الفن بأكاديمية لاشوميير الكبرى في باريس. ومع حلول سنة 1927 عرض فيرالت أعماله الفنية بأروقة مجموعة من البلدان الأوروبية والأميركية، علاوة على الأفريقية.

وإثر اندلاع الحرب العالمية الثانية عاد هذا الفنان إلى موطنه الأصلي ليصبح من رواد الفن في البلد، ومستشارا في المطبعة الوطنية بمدينة تالين. وبعد احتلال إستونيا من طرف قوات الاتحاد السوفياتي خلال سنة 1940 وتدمير مدينة تالين وعدم بزوغ انفراج في الأفق لهذه الأزمة السياسية غادر الفنان البلاد بذريعة تنظيم معرض للوحاته في فيينا. وبعد جولات قادته إلى ألمانيا والسويد استقر به المطاف مرة ثانية في باريس سنة 1946، حيث توفي يوم 08 يناير 1954 بمرض عضال، ودفن بمقبرة الأب لاشيز في المدينة ذاتها.

وبرحيل فيرالت تكون صفحة مضيئة من توهج الإبداع الإستوني الحديث قد انطوت، فإذا كان لكل بلد عباقرة وأساطير فنية خاصة به، فبالنسبة إلى الإستونيين يعتبر اسم هذا الفنان مرادفا للعبقرية الإبداعية والبراعة المتميزة في فن الرسم والنحت، علاوة على النقش.

ما بين سنتي 1938 و1939، وقبيل اندلاع الحرب العالمية الثانية، توجه فيرالت إلى المغرب بهدف الاستجمام، حيث استقر بحي القصور في المدينة العتيقة لمراكش. وأثناء هذه الفترة تحولت لوحاته من التعبيرية إلى اعتماد خطاب أكثر هدوءا وقربا من الطبيعة. كما اكتشف ثقافة أخرى ومحيطا مغايرا، لم يكن

◙ للفنان دور كبير في مجال الدبلوماسية الموازية؛ فقد عرّف بالمغرب وأناسه الطيبين ومناظره الخلابة لدى مواطنيه

له سابق معرفة بهما، فتأثر بسحر المدينة الحمراء، وببساطة وعفوية سكانها، إضافة إلى عبق التاريخ الذي يفوح من مختلف أرجائها، فأقبل يرسم بحيوية وانشراح كبير بورتريهات ومشاهد من الحياة اليومية المغربية، مثل: مراكش، وسور مدينة مراكش، والرجل الهرم، والمرأة الصحراوية، والمرأة الأمازيغية، والطفل الأمازيغي (1938)، ومشهد قرب مراكش، والجمل العربي (1939).

وتحتل النقوش واللوحات التي أنجزها هذا الفنان بمراكش مكانة متميزة في مساره الإبداعي، لكونها تحتفي بسكان هذه المدينة وإرثها التاريخي والطبيعي، وكذلك لأنها تمتح من معين التيار الكلاسيكي، بدل التعبيرية والسريالية اللتين كانتا تهيمنان على لوحاته الفنية. وفي وقت لاحق، سواء بفرنسا أو بإستونيا، ظلت مراكش والمغرب حاضرين بذاكرته ومخياله، ما أوحى إليه بإنجاز رسومات ونقوش أخرى عنهما، مثل لوحتي: الفتاة الأمازيغية والجمل، والصبي العربي (1940).

وخلال شهر نوفمبر 2010 تم بحضور إيني إيرجما، رئيسة البرلمان الإستوني وقتئذ، وضع لوحة تذكارية على مدخل المنزل الذي قطنه هذا الفنان بمراكش، مخلدة لمروره اللافت والحافل بالعطاء، ومكتوب عليها باللغات العربية والفرنسية، إضافة إلى الإستونية، ما يلي: “هنا عاش الفنان التشكيلي الإستوني الكبير إدوارد فيرالت من 31 يوليو عام 1938 إلى 17 فبراير عام 1939”.

ولهذا الفنان دور كبير في مجال الدبلوماسية الموازية، حيث عرف بالمغرب وأناسه الطيبين ومناظره الخلابة لدى مواطنيه، عبر قناة التشكيل الجميلة. وهذا ما أكده رافيو تام، رئيس مجموعة الصداقة البرلمانية إستونيا – المغرب، أثناء زيارته يوم الإثنين 30 يناير 2023 لمجلس النواب المغربي، حيث قال “إن للمغرب مكانة خاصة لدى شعب إستونيا، الذي يحتفظ بذكريات جميلة عن هذا البلد، بفضل أعمال الرسام الإستوني الشهير إدوارد فيرالت، الذي عاش في المغرب في الثلاثينات من القرن الماضي”.

ويبقى الأثر

◙ شيء من الذاكرة
◙ شيء من الذاكرة 

تخليدا لذكرى وفاة فيرالت أصدرت المؤرخة والناقدة الفنية الإستونية ماي ليفين كتابا فنيا يحمل عنوان “إدوارد فيرالت”، ويضم هذا المصنف نبذة عن حياة الفنان ومساره الإبداعي، وصورا لمجموعة من أعماله الفنية، علاوة على مقالات عنه باللغات الفرنسية والإنجليزية والألمانية، إضافة إلى الروسية. وسنة 1997 قام الإستونيان هاري مانيل وهنري راديفال، اللذان يعتبران من محبي الفن، بإحداث جائزة فيرالت للنحت، بالتعاون مع بلدية مدينة تالين ومتحف الفنون الجميلة في هذه المدينة. ومنذ سنة 2004 تقدم وزارة الثقافة الإستونية ومركز الإبداع الثقافي بتالين منحة، وفاء لذكرى هذا الفنان، لفائدة الطلبة والفنانين الشباب، من أجل القيام بتدريبات في الخارج.

وفي مدينتي تارتو وتالين، حيث عاش هذا الفنان فترة هامة من حياته، هناك أزقة تحمل اسمه تخليدا لذكراه واعترافا بالمجهودات التي  بذلها خدمة للفن والثقافة الإستونيين. وبمناسبة تنظيم الأيام الثقافية الإستونية بنيويورك، خلال الفترة الممتدة بين 14 و16 أبريل 2023، تم عرض مجموعة من الأعمال الفنية لفيرالت، وفيلم الرسوم المتحركة “الجحيم” للمخرج الإستوني رين رامات المستوحى من لوحة هذا الفنان التي تحمل الاسم ذاته، والمنجزة بين سنتي 1930 و1932 في باريس.

وخلف فيرالت ثروة فنية كبيرة تقدر بما يناهز 400 نقش وحوالي 4000 رسم، ويمكن رؤية نماذج من هذا المنجز البصري الهائل ضمن مجموعات ألبرتينا في فيينا، ومتحف الإرميتاج بسان بطرسبورغ، إضافة إلى متحف الفن بتالين. ويعتبر هذا المنجز الإبداعي المتميز وثيقة فنية وتاريخية شاهدة على التطور الفني الغني والمتنوع لهذا الفنان، الذي كان يبحث دائما عن الأفضل، ويجعل أعماله الفنية ترجمانا، بوعي أو دون وعي، يمور بما تعتمل به دواخله، خلال النصف الأول من القرن الماضي الذي تميز باندلاع الحروب والقلاقل الكونية.

لقد كان فيرالت مواطنا عالميا، وفنانا عابرا للحدود، فأغلب بقاع المعمورة قد آوته أو استضافت معارضه، وإن كان قد رحل، فإن أثره مازال باقيا في عدة مناطق من العالم، ويشهد على نبوغه الفني وغنى وتنوع تجربته الإبداعية في مجالات الرسم والنحت، إضافة إلى النقش.

14