الإرث المسموم

موت الطاغية ليس دائما مرادفا لبسط مناخ سلمي داخل المجتمع، بل قد ينقسم الناس حوله، فيمقته من اكتوى بظلمه وجوره، ويعبده من كان يجد في حكمه مصلحته، ويجعل من قبره مزارا، ومن صورته رمزا لبطل قومي.
الخميس 2018/11/01
الدكتاتور كابوس، سواء أكان حيّا أم ميّتا

يحدث أن يسقط الدكتاتور وتبقى الدكتاتورية قائمة إذا استطاع أنصاره استغلال الفوضى التي تلي سقوطه، لا سيما في غياب قوى منظمة ترسي البديل، ولكن يحدث أيضا أن تسقط الدكتاتورية ويبقى الدكتاتور، وإن قتل أو أعدم في الساحة العامة أو مُثِّل بجسده أمام عدسات الكاميرا؛ وهو ما توقف عنده الشريط الوثائقي “جسد الدكتاتور” الذي بثته مؤخرا القناة الثالثة الفرنسية. ذلك أن موت الطاغية ليس دائما مرادفا لبسط مناخ سلمي داخل المجتمع، بل قد ينقسم الناس حوله، فيمقته من اكتوى بظلمه وجوره، ويعبده من كان يجد في حكمه مصلحته، ويجعل من قبره مزارا، ومن صورته رمزا لبطل قومي، ومن اسمه حنينا إلى ماض تولّى، مزدهر بالضرورة.

كذلك الشأن مع الفاشي موسوليني الذي حكم إيطاليا بقبضة من حديد لمدة ربع قرن، وكان يُلقَّب بـ”الدوتشي” (القائد)، فقد أعدِم رميا بالرصاص بعيدا عن الأعين، ثم نُكّل بجسده، وصُلب في إحدى ساحات ميلانو أمام عدسات الكاميرا، ولكنه ظل حاضرا في الذاكرة الجمعية طوال سنين، لأن الفاشية في نظر كثير من الطليان رمزٌ لمرحلة مجيدة تمثلت في القوة العسكرية، والإمبراطورية الكولونيالية، وحسن التنظيم الإداري. ورغم أن سلطات تلك الفترة وارت جثته في مكان مجهول، استطاع أنصاره أن ينفذوا إليها وينقلوا رفاته إلى مقبرة عائلته في قرية بريدّابيو، فصار ضريحه منذ ذلك التاريخ مزارا لكل من يؤمن بألا مستقبل لإيطاليا إلا بعودة الفاشية، وعلى رأسهم ماتيو سالفيني زعيم رابطة الشمال اليمينية المتطرفة، حتى بلغ عدد الزوار سنويا مئة ألف زائر. كذلك فرانثيسكو فرانكو الملقب بـ”الكوديّو” (الزعيم)، فقد أضحى الضريح الضخم، الذي بناه لنفسه قبل موته، مقاما يحج إليه مريدوه، ويقيمون على روحه قُدّاسات وتجمعات احتفالية، قبل أن يتحول إلى مؤسسة تديرها ابنته كارمن، ولم تفلح الحكومة الاشتراكية الحالية في نقل رفات الطاغية إلى مقبرة عائلية خاصة، وكأن الطغاة خالدون، يلفّهم شعور جمعي بأن الموت لم يغيّبهم تماما.

ولتجنب هذا “الإرث المسموم” بعبارة المؤرخ ديديي موزييدلاك، تمّ إتلاف جثث بعض الطغاة أو دفنها في مكان مجهول أو حرقها، كما حدث مع هتلر والروماني تشاوشيسكو والتشيلي بينوشي، أو تركها في منفاها ورفض استردادها كحال الزائيري موبوتو والأرجنتيني فيديلا، خشية أن يتحول الضريح إلى قِبلة يغذي من خلالها الأوفياء حنينا إلى عهد كانوا يحكمون فيه بأحكامهم، وقد يتخذونه رمزا لرصّ الصفوف ومناوءة النظام القائم.

أي أن الدكتاتور في نهاية الأمر كابوس، سواء أكان حيّا أم ميّتا.

15