الإخوان في مصر يستثمرون "حرب الجبهات" لإعادة التموقع

يسعى الإخوان المسلمون في مصر عبر النفخ في الخلافات الداخلية بين قياداتهم إلى الإيهام بوجود ديناميكية إصلاحية داخل الجماعة بعد الهزيمة التي منيت بها. ويرى مراقبون أن الجماعة تستثمر ذلك أيضا في إعادة التموقع السياسي.
القاهرة – لم يعد المصريون يستيقظون على بيانات جماعة الإخوان التي تنال من النظام الحاكم، حيث فقد هذا الخطاب العدائي مصداقيته ولم يجد على مدار أكثر من سبعة أعوام تجاوبا من المواطنين، وبدلا من أن تخسر الجماعة حضورها السياسي بدأت تستثمر في الأزمات التي تعصف بها لتظل رقما في المعادلة الداخلية والخارجية.
وتحولت الخلافات بين جبهة إسطنبول التي يقودها محمود حسين، وجبهة لندن ويقودها إبراهيم منير، إلى ما يشبه الدراما المكونة من حلقات طويلة، ونهايتها مفتوحة على احتمالات مختلفة، كلما اتخذت الجبهة الأولى خطوة ضد الثانية عاجلت الأخيرة بضربة مضادة، ولا أحد يعرف لمن ستكون الغلبة في هذه المعركة.
وظهرت آخر الحلقات سيئة الإخراج مساء السبت، عندما أصدرت جبهة لندن بيانا رسميا لم تعترف فيه بقرارات جبهة إسطنبول، أو ما يسمّى بمجلس الشورى العام.
عناصر تابعة للجماعة تجد في معارك الجبهتين وسيلة لتأكيد أن تنظيم الإخوان لا يزال على قيد الحياة سياسيا
وقررت عزل القائم بعمل مرشد الجماعة مصطفى طلبة، الذي تم تعيينه عن طريق جبهة إسطنبول، مؤكدة على أن الشرعية يمثلها نائب المرشد العام والقائم بالأعمال إبراهيم منير، وما حدث من جبهة محمود حسين هو شق للصفّ استوجب المحاسبة.
ولم تعد طبيعة القرارات التي يتخذها كل جانب مهمة، حيث يمكن تلخيصها في عبارة نيوتن الشهيرة “لكل فعل رد فعل مساو له في المقدار ومضاد له في الاتجاه”، وهذا لا يعني أن جبهتي الجماعة تستخدمان العلم في الحرب المعلنة بينهما، لكن هو تبسيط لمعرفة تطورات الأزمة باختصار، لأنها تدور في حلقات لا تتوقف عند مستوى معين.
وبدلا من أن تشغل الجماعة كوادرها بخطة للمراجعة وتعترف فيها بوقوع أخطاء كارثية خلال السنوات الماضية، فضلت الهروب إلى الأمام وتوسيع نطاق الخلافات وتعمّد تحويلها إلى حرب علنية تجد فيها عناصر الجماعة ما يمكن وصفه بالتسلية، ففي النهاية لا جبهة إسطنبول خرجت عن ثوابت الجماعة ولا جبهة لندن تريد الانفصال عنها.
وتبدو الخلافات محصورة في نطاق القفز على إدارة الجماعة بعد أن خسرت الكثير من القيادات الفترة الماضية بفعل الأحكام القضائية الصادرة ضدها والحبس في السجون المصرية، أو بسبب الهروب والتخفي والتنقل من بلد إلى آخر، أو جراء الوفاة والقضاء والقدر، وهو ما منح الحرب بين حسين ومنير جاذبية يستعيض بها كل طرف عن المحاسبة السياسية التي من المفترض أن تتم بعد الفشل الذي منيت به الجماعة.
وتجد عناصر تابعة للجماعة في معارك الجبهتين وسيلة لتأكيد أن تنظيم الإخوان لا يزال على قيد الحياة السياسية، عملا بقاعدة “أن تذكر سلبا في الإعلام خير من أن لا تذكر أبدا”، والتي تجيدها الجماعة وجعلتها تلجأ إلى خروج خلافاتها للعلن بشكل غير معهود، حيث من المعروف أنها تدير تفاصيل روابطها السياسية وعملياتها الأمنية واستثماراتها الاقتصادية في أجواء دقيقة من السرية.
ويصلح اللجوء إلى صفة الكتمان عندما يكون للجماعة دور فاعل على الأرض، ويصلح أيضا عندما تمتلك خططا حقيقية تسعى إلى تنفيذها، ومشروعا واضحا ينقذها من عثراتها، لكن الأوضاع الحالية تشير إلى افتقارها لكل ذلك، فلا هي فاعلة ولا تملك خططا وتفتقر للمشروع السياسي، وأصبح الضجيج سلاحا قد يمنحها فرصة لتسليط الأضواء عليها والإيحاء بأنها لم تفقد بوصلتها.
وتريد قيادات الجماعة مغازلة البعض من رعاتها وداعميها في دول غربية، وتؤكد أنها لا تزال مستمرة في ممارسة دورها القديم، وأن الخلافات ما هي إلا تجسيد لرغبتها في إعادة ترتيب أوضاعها الداخلية التي يمكن أن يستشف منها أنها حركة “ديمقراطية” ونفي صفة الدكتاتورية، والدليل هذا البون الشاسع من التباينات بين قياداتها الرئيسية.
وينطوي التكوين السياسي لجماعة الإخوان على غموض يجعل المراقبين لتحركاتها يصعب عليهم التوصل إلى تفسير واحد بشأن التطورات التي تعصف بها، فقد تكون الخلافات كاشفة عن هوة بين القيادات، لكنها تحاول توظيفها في ما يفيدها لأنها أصلا تدور حول أي الجبهتين تستطيع القبض على قيادة الجماعة والعبور بها إلى برّ الأمان.
الصخب الذي يحيط بجماعة الإخوان في دول مختلفة يوحي أن هذا التنظيم لم ينته تماما والأزمات التي عصفت به الفترة الماضية لن تستطيع القضاء عليه
وتعبر المعركة الدائرة بين جبهتي إسطنبول ولندن عن استعداد للتعامل مع المرحلة المقبلة، التي يمكن أن يهدأ فيها اللغط حول الدور الذي تلعبه الجماعة في المنطقة.
وأدت الهزات الكبيرة التي تعرضت لها في دول مثل مصر والسودان وتونس والمغرب والأردن ودول الخليج، ودول غربية، إلى تفكير بعض الدوائر في طي صفحتها وتجاوز الدور الذي قامت به خلال العقود الماضية، غير أن ما تقوم به الجماعة من تضخيم مقصود للأزمات الداخلية ونفخ في الخلافات البينية يوحي بأنها تعمل لأجل إعادة التموضع استعدادا لمرحلة يمكن أن تتبوأ فيها الجماعة مكانة جديدة.
ويوحي الصخب الذي يحيط بجماعة الإخوان في دول مختلفة، خاصة الفرع المصري الأم، أن هذا التنظيم لم ينته تماما والأزمات التي عصفت به الفترة الماضية لن تستطيع القضاء عليه وتنحيته عن المسرح السياسي، فوجود خلافات معناه أن هناك هيكلا يريد إصلاح أحواله ويبحث عن قيادة تساعده على تخطي المحنة.
ويصب هذا الاستنتاج في ما ذهب إليه بعض متابعي حركات الإسلام السياسي في المنطقة مؤخرا، من أن هذا التيار لن ينتهي دوره، وكل ما يجري الآن هو محاولات للعودة بما يتواءم مع التغيرات الكبيرة التي شهدها، والبحث عن صيغة تتناسب مع ما ترتب على الانتكاسات العديدة التي تعرض لها التيار.
وتحدد النتيجة التي سوف تتوصل إليها جماعة الإخوان في مصر، بشأن انتصار جبهة على أخرى أو ظهور جبهة ثالثة، شكل العلاقات الخارجية إلى حدّ بعيد، والتي تمثل بعدا حيويا في جسمها السياسي، فقوتها الذاتية لن تستطيع التحرك دون الحصول على مباركة من جهات ترى فيها أداة يمكن الاستفادة منها لاحقا.
ولعل الرعاية السياسية التي تحظى بها في بعض الدول تؤكد إمكانية بعث الجماعة من جديد وفقا لما حدث من تحولات في المنطقة، لذلك باتت الخلافات الدائرة بين جبهتي إسطنبول ولندن جزءا من عملية طويلة لاستهلاك الوقت بدلا من الصمت التام.
ويشير ارتفاع صوت الجبهتين حاليا من خلال معارك حقيقية أو مفتعلة إلى أن الجماعة قادرة على التكيف مع المستجدات من دون أن تكون مضطرة للتخلي عن ثوابتها أو إجراء مراجعات في المفاصل التي يعتمد عليها خطابها السياسي منذ عقود.