"الإجهاد الحراري" أخطر تحدّ لا تعبأ به الحكومات العربية

الظواهر المناخية الجامحة تهدد المجتمعات العربية بسيناريو كارثي.
الأربعاء 2020/08/12
المستجيرون من الرمضاء بالنار

تشكل موجات الحر مصدر قلق حقيقيا على الصحة العامة للناس في المجتمعات العربية، ويرى خبراء المناخ والصحة، أنه إذا لم يتم اتخاذ إجراءات حاسمة للحد من النسق التصاعدي لحرارة الطقس، فإنه سيؤدي حتما إلى زيادة “الإجهاد الحراري”، والسير حثيثا نحو تحديات أعمق، ولا تبدو العبرة للإنسان إلا في التعلم من الكوارث السابقة والاستفادة من نصائح العلماء، وبذل المزيد من الجهد لوقف تفاقم مثل هذه الكوارث، لكن من الواضح أن معظم الحكومات العربية لا تضع الظواهر المناخية الجامحة في صدارة أولوياتها.

ازدادت درجات الحرارة إلى حدّ غير مسبوق وأصبح الصيف في الدول العربية لاهبا بشكل لم تعهده من قبل، وخلفت المستويات القياسية لدرجات الحرارة حرائق وقتلى في مناطق كانت لا تعرف من حرارة الصيف إلا شيئا من الدفء، وصاحبت ارتفاع درجة الحرارة، كثافة عالية في الرطوبة، مما عرّض عددا كبير من سكان المدن العربية إلى ذلك المزيج الخطير ما بين الحرارة والرطوبة، الذي يتجدد كل صيف.

وبينما تحدث الظواهر الجوية مثل هذه الموجات الحارة بشكل طبيعي، يقول خبراء إن هذه الموجات سوف تتكرر بسبب التغير المناخي، محذرين من تأثيراتها على شعوب الدول العربية التي ليس لديها سوى قدرة محدودة على التعامل مع هذه الظاهرة، وقد تترتب عنها تداعيات كارثية، مثل نقص المحاصيل، والمجاعات والتصحر.

ولاحظ بعض الخبراء أن انهيار حضارات أناسازي وتيواناكو، والإمبراطورية الأكدية وحضارة المايا والإمبراطورية الرومانية، قد تزامن مع تغيرات مناخية مفاجئة تمثلت في موجات جفاف.

وذكر صفا موتيشاري، عالم أنظمة الكمبيوتر بجامعة مريلاند وزملاؤه في نتائج لدراسات توصلوا إليها ونشرت عام 2014 أن ثمة عاملين أساسيين يسهمان في انهيار المجتمعات، وهما الضغط على الموارد الطبيعية والتفاوت الطبقي.

وقد اشتهر العامل البيئي بأنه أقصر الطرق نحو هلاك الأمم، ولاسيما في حالة نضوب الموارد الطبيعية، مثل المياه الجوفية، والتربة الصالحة، والثروة السمكية والغابات. وقد يزيد الاحتباس الحراري الأمر سوءا.

ولو تم النظر مثلا، إلى منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا التي لطالما اجتاحتها موجات الحر وتعايشت معها، كما اكتسبت شعوبها خبرات وابتكرت حيلا لحماية أطفالها وكبار السن فيها من موجات الحر، فإن درجات الحرارة القياسية لصيف 2020 تكشف عن عدم قدرة الحكومات العربية على وضع استراتيجية مستقبلية لتوفير الماء والكهرباء لمواجهة تحدي موجات الحر الخانقة، وتسلط أيضا الضوء على القاسم المشترك بين هذه الدول، وهو الفقر والفجوة الاجتماعية بين السكان، فحتى الحرارة القاسية يتحملها الفقراء وضعاف الحال، الذين لا يملكون ثمن أجهزة التكييف، وكلما ازداد سخط الناس وخوفهم، سيكون من الصعب تفادي سقوط الدولة.

مخاطر الاحترار

Thumbnail

لعل بعض علامات هذه التنبؤات قد ظهرت بالفعل في ظل ضغوط “الإجهاد الحراري” الذي يواجهه من لا يستطيعون الاحتماء داخل مبان مكيفة الهواء لوقاية أنفسهم من الطقس الحار وتقلبات المناخ من حولهم.

وخلافا لموجات البرد القارس، فإن أضرار الارتفاع الشديد في درجات الحرارة قد يتطور سريعا، إذ لوحظ أن أغلب الوفيات جراء موجات الحر وقعت في غضون 24 ساعة من بدايتها.

والمشكلة الأخرى أن الحفاظ على درجة حرارة الجسم الداخلية يزداد صعوبة كلما تقدم العمر، وقد لا يلاحظ المسن أن حرارة جسمه ترتفع بما يتجاوز قدرة الجسم على التخلص منها، ولهذا يصاب المسن بالجفاف أسرع مما يصاب به الشاب.

لكن هذا لا يعني أن المسنين وحدهم هم الأكثر تأثرا بمضارّ موجات الحر، إذ أن الأطفال الرضع والأشخاص المصابين بأمراض مزمنة أكثر عرضة أيضا للإصابة بمشاكل صحية جراء ارتفاع درجات الحرارة.

وينطبق ذلك أيضا على الأشخاص من ذوي الإعاقة الحركية الذين يجدون صعوبة في السير إلى النافذة لفتحها أو إحضار المشروبات لتعويض السوائل التي تفقدها أجسامهم بسبب التعرق.

وإذا ظل الطقس حارا ليلا ونهارا، قد يصعب على الجسم تنظيم الحرارة.

ووجد العلماء أن هناك فرقا في أداء من يعملون أو يعيشون في مبان ترتفع فيها درجات الحرارة لخلوها من مكيفات الهواء وبين من هم في مبان مكيفة.

ويعيش عدد كبير من السكان في الدول العربية ويعملون في ظروف قد تعرّض حياتهم للخطر.

وهذا يشمل العمل في الأماكن المغلقة مثل المصانع والمستشفيات التي لا توجد بها مكيفات هواء، أو تحت الشمس مثل المزارعين وعمال البناء، وهذه الفئات أكثر عرضة لخطر “الإجهاد الحراري”، وهو الوضع الذي يصبح فيه الجسد غير قادر على التبريد بالشكل المطلوب، فتستمر درجة حرارته الأساسية في الارتفاع إلى مستويات خطيرة قد تؤدي إلى توقف أعضاء رئيسية في جسمه عن العمل.

الخبراء يحذرون من العامل البيئي الذي يعرف بأنه أقصر الطرق نحو هلاك الأمم، ولاسيما في حالة نضوب الموارد الطبيعية، مثل المياه الجوفية والتربة الصالحة، والثروة السمكية والغابات

كما تحد الحرارة الزائدة أثناء العمل من الوظائف والقدرات الجسدية للعمال ومن أدائهم للعمل وبالتالي تضر بالإنتاجية. وفي الحالات الشديدة، يمكنها أن تتسبب ضربة شمس قد تكون مميتة.

وتشكل درجات الحرارة إذا ما ارتفعت فوق 37 مئوية خطورة. وفي الأيام التي تزيد فيها الحرارة عن 30 درجة مئوية، ينبغي تدابير وقائية. كما تلعب الرطوبة كذلك دورا؛ ففي ظل ارتفاع معدل الرطوبة يتعذر إفراز العرق ومن ثم خفْض درجة حرارة الجسم.

وتتراوح درجة حرارة الجسم العادية ما بين 37 إلى 38 درجة مئوية. أما إذا ما ارتفعت لتصل إلى 39 أو 40 درجة، فإن الدماغ يقوم بإرسال إشارات إلى العضلات حتى تبطئ من حركتها؛ وهو ما يجعل المرء يبدأ في الشعور بالإعياء.

وعند ارتفاع درجة حرارة الجسم لتتراوح ما بين 40 إلى 41 درجة مئوية، يكون من المحتمل أن يصاب الجسم بالإجهاد الحراري، وإذا ما ارتفعت الحرارة عن 41 درجة، تبدأ وظائف الجسم في التوقف.

حيث يبدأ ذلك الارتفاع في درجة الحرارة في التأثير على العمليات الكيميائية داخل الجسم، وتبدأ الخلايا داخل الجسم في التدهور مع خطورة أن يعتري الفشل عددا من أعضاء الجسم.

وفي هذه المرحلة، لا يمكن للجسم حتى أن يفرز العرق، إذ يتوقف تدفق الدم إلى الجلد، وهو ما يجعل الإنسان يشعر بالبرودة والرطوبة.

وتقول منظمة الصحة العالمية إن “ارتفاع درجة حرارة الجسم جراء التعرض لمحيط تتجاوز درجة حرارته المعدلات الطبيعية يؤثر بالسلب على قدرة الجسم على ضبط درجة الحرارة الداخلية، ما قد يسفر عن مجموعة من الأمراض منها التشنجات والإجهاد وضربة الشمس وسخونة البدن”.

وتدعو المنظمة المواطنين إلى الحفاظ على برودة المنازل والتحقق من درجة الحرارة بانتظام والتي يجب أن تبقى أقل من 32 درجة مئوية خلال النهار و24 درجة مئوية في الليل، ونصحت بفتح النوافذ في الليل والصباح الباكر وتعليق المناشف المبللة لتهدئة هواء الغرف ما يساعد على خفض درجة الحرارة.

وأكدت المنظمة أهمية الحفاظ على الجسم باردا ورطبا والاستحمام بالماء البارد وارتداء ملابس خفيفة من مواد طبيعية وشرب السوائل بانتظام مع تجنب الكثير من الكافيين والسكر، وتناول وجبات خفيفة وأيضا الأطعمة التي تحتوي على نسبة عالية من البروتين.

مصائب قوم

لكن مثل هذه النصائح الضرورية تعد ترفا عند الفقراء الذين يشكلون أغلبية سكان الدول عربية مثل العراق وسوريا ومصر وليبيا وتونس.

وبالرغم من أن سكان هذه الدول يجاهدون كل صيف لاتقاء سعير الصيف في ظل عدم التزام حكوماتهم بتوفير الماء والكهرباء بشكل متواصل، فإن درجة الحرارة القياسية خلال هذا الصيف تهدد صحتهم وتؤثر على أدائهم في العمل.

وتشهد معظم الدول العربية صيفا لاهبا تزداد حرارته عاما بعد آخر بسبب توسّع طبقة الأوزون المحيطة بالغلاف الجوي، ما يدفع بالأشعة فوق البنفسجية إلى المزيد من تأثيرها على الأرض.

وارتفعت درجات الحرارة بشكل كبير في العديد من المدن العربية حيث تجاوزت الـ42 درجة مئوية، لكن الارتفاع كان جنونيا في السعودية والعراق والكويت، حيث وصلت الحرارة إلى أكثر من 50 درجة مئوية.

وسجلت بعض المناطق في الجزائر نحو 52 درجة مئوية، فيما سجلت تونس خلال يوليو الماضي درجات حرارة تجاوزت المعدلات الموسمية بعشر درجات، ووصلت أقصاها إلى 49.6 درجة في الظل بمحافظة قابس يوم 3 أغسطس 2020، كما نشبت على الأقل أربعة حرائق في غابات محافظتي باجة والكاف في شمال غرب البلاد الذي يضم المساحة الأوسع للغابات في تونس، بحسب ما أفادت به الحماية المدنية.

2.2 في المئة من إجمالي ساعات العمل ستضيع في جميع أنحاء العالم بسبب ارتفاع درجات الحرارة

واقتربت درجة الحرارة في شهر يوليو بالعاصمة العراقية بغداد من 52 درجة مئوية، وهي واحدة من أعلى المعدلات التي شهدتها المدينة على الإطلاق.

ولازم الكثير من الناس منازلهم، بينما لجأ البعض منهم إلى تبريد أنفسهم بالمياه للتخفيف من وطأة الحر الشديد.

وأجبر انقطاع الكهرباء الكثير في بغداد اللجوء إلى مولدات الطاقة المملوكة لهم للحفاظ على تشغيل المراوح ومكيفات الهواء، ما يُطلق كميات أكبر من الانبعاثات الغازية في الأجواء.

وفشلت الحكومات المتعاقبة على العراق في معالجة ملف الخدمات منذ 2003 ومنها ملف الكهرباء الذي أثار الكثير من الجدل خصوصا وأن هذه الحكومات قد أولت هذا الملف أهمية كبيرة وصرفت عليه المليارات من الدولارات لكن الإهمال والفساد المستشري تركا الملف معلقا.

يتكرر المشهد ذاته في دول عربية أخرى مثل سوريا وليبيا ولبنان، حيث الانقطاع المستمر للتيار الكهربائي، وتتكرر الأعذار التي تسوقها وزارات الكهرباء مع ارتفاع درجات الحرارة الذي يزيد في تأجيج غضب المواطنين وتهديد حياة الأطفال وكبار السن.

وفي ظل عجز الحكومات العربية عن معالجة مشاكل شعوبها بالشكل الصحيح، يضطر الناس إلى الاعتماد على أنفسهم وابتكار طرقهم وحيلهم الكفيلة لمواجهة الارتفاع في درجات الحرارة. ومما يدعو للأسف، أن الأسلوب الأكثر شيوعا في هذا المجال، يعتمد على استخدام المزيد من أجهزة التكييف ومن ثم العدد الأكبر من مولدات الكهرباء، ما يؤدي إلى إطلاق قدر أكبر من الانبعاثات الغازية المسببة لظاهرة الاحتباس الحراري، ولكنها تظل الخيار الوحيد بالنسبة إلى الكثيرين من أجل البقاء على قيد الحياة.

مشهد قاتم

Thumbnail

يختلف العلماء حول إن كان ارتفاع درجات الحرارة الحالي عالميا وهو بالفعل نتيجة التغير المناخي، لكنهم جميعا يتفقون على أن موجات الحرارة في المستقبل ستكون أشد، وأكثر تواترا بسبب انبعاث الكربون.

ووفقا لمعهد ماكس بلانك للكيمياء، ستشهد بعض المناطق في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ارتفاعا كبيرا في درجات الحرارة خلال فصل الصيف بنحو 4 درجات مئوية بحلول منتصف القرن الحالي، حتى ولو نجحت الجهود الدولية في الحد من متوسط درجة الحرارة العالمية بناء على اتفاقية باريس الموقعة عام 2016.

وتقول المنظمة العالمية للأرصاد الجوية إن ارتفاع درجات الحرارة عالميا بصورة “استثنائية” يرجع إلى انبعاثات غازات الاحتباس الحراري.

وتشير الأبحاث التي أجريت خلال السنوات الأخيرة إلى أن وتيرة ارتفاع درجات الحرارة في الوقت الراهن هي أسرع من أي فترة درست خواصها في الماضي، وإلى دعوة العلماء إلى ضرورة الحد من ارتفاع درجات الحرارة عالميا إلى 1.5 درجة مئوية لتجنب أسوأ عواقب التغير المناخي.

وقد لا يبدو هذا الرقم كبيرا، ولكن إذا لم تتخذ دول العالم خطوات من شأنها الحد من ارتفاع درجات الحرارة، فقد يواجه العالم “تغييرا كارثيا”، حسبما تقول منظمة “IPCC”، الهيئة العالمية الرئيسية المعنية بهذه المشكلة.

وإذا واصلت درجات الحرارة ارتفاعها بالوتيرة الحالية، من المتوقع أن تؤدي زيادة “الإجهاد الحراري” الناتج عن الاحترار العالمي إلى خسائر عالمية في الإنتاجية تعادل 80 مليون وظيفة بدوام كامل في عام 2030، وفقا لتقرير جديد صادر عن منظمة العمل الدولية.

وتشير التوقعات بارتفاع درجات الحرارة في العالم بمقدار 1.5 درجة مئوية بحلول نهاية هذا القرن إلى أنه في عام 2030، سيضيع 2.2 في المئة من إجمالي ساعات العمل في جميع أنحاء العالم بسبب ارتفاع درجات الحرارة، وهي خسارة تعادل 80 مليون وظيفة بدوام كامل. وهذا يعادل خسائر اقتصادية عالمية قدرها 2.400 مليار دولار أميركي.

علاوة على ذلك، يحذر التقرير من أن هذا التقدير متحفظ لأنه يفترض أن متوسط الارتفاع في درجة الحرارة العالمية لن يتجاوز 1.5 درجة مئوية، ولأنه يفترض أيضا أن العمل في الزراعة والبناء – وهما من القطاعات الأكثر تضررا من الإجهاد الحراري – يتم في الظل.

ويعتمد تقرير منظمة العمل الدولية الذي حمل عنوان “العمل على كوكب أكثر دفئا: تأثير الإجهاد الحراري على إنتاجية العمل والعمل اللائق”، على بيانات مناخية وفيزيولوجية وبيانات التوظيف، ويقدم تقديرات لخسائر الإنتاجية الحالية والمتوقعة على المستويات الوطنية والإقليمية والعالمية.

وسيتوزع الضرر بشكل غير متساو على بلدان العالم. والمناطق التي من المتوقع أن تخسر معظم ساعات العمل هي جنوب آسيا وغرب أفريقيا، حيث ستخسر قرابة 5 في المئة من ساعات العمل في عام 2030، أي نحو 43 مليونا و9 ملايين وظيفة على التوالي.

كما أن سكان أشد المناطق فقرا هم الذين سيتكبدون أكبر الخسائر الاقتصادية. فمن المتوقع أن تبلغ المعاناة أشدها في البلدان ذات الدخل المنخفض والشريحة الدنيا من الدخل المتوسط، نظرا لأن مواردها أقل للتكيف بفعالية مع زيادة الحرارة. في ضوء ما سبق، فإن الخسائر الاقتصادية الناجمة عن الإجهاد الحراري ستزيد الحرمان الاقتصادي القائم بالأصل، ولاسيما ارتفاع معدلات الفقر في صفوف العمال، وزيادة العمل غير المنظم والمهدَّد، والزراعة بغرض الكفاف، وضعف الحماية الاجتماعية.

وسيؤثر الإجهاد الحراري على ملايين النساء اللاتي يشكلن غالبية العاملين في زراعة الكفاف (زراعة تعتمد على الاكتفاء الذاتي)، وكذلك الرجال الذين يسيطرون على قطاع البناء والتشييد. ومن التبعات الاجتماعية الأخرى للإجهاد الحراري زيادة الهجرة، حيث يغادر العمال الريف بحثا عن آفاق أفضل.

12