الإبقاء على القيادات الصحفية في مصر رسالة محبطة لمصير الإعلام

استقبلت الجماعة الصحفية في مصر قرار الإبقاء على رؤساء مجالس إدارات وتحرير الصحف الحكومية (القومية) فحالة الترهل في المحتوى التحريري طالت الكثير من المنابر الصحفية وكانت تستدعي تجديد الدماء في القيادات المسؤولة عن إدارات الصحف وتحريرها قبل تفاقمها بشكل يصعب معه وضع حلول جذرية.
القاهرة - قررت الهيئة الوطنية للصحافة المصرية في اجتماعها الذي عقدته قبل أيام تكليف رؤساء مجالس الإدارات ورؤساء تحرير الإصدارات الورقية والإلكترونية ومجالس الإدارات بالمؤسسات الصحفية القومية، بتشكيلهم الحالي، بتسيير الأعمال اللازمة لإدارة المؤسسات والإصدارات الصحفية لمدة ثلاثة أشهر، أو إجراء التغييرات الصحفية، لكن أيهما أقرب، مع أنه كان يفترض إجراء التغييرات قبل الانتخابات الرئاسية.
وارتبط تجهم الكثير من أبناء المهنة وتعجبهم بأن النسبة الكبيرة من الأسماء المستمرة في مناصبها، لثلاثة أشهر مقبلة بعد تمديد سابق لثلاثة أشهر أخرى، لم تصنع لإصداراتها انتصارا مهنيا يشفع لها في الاستمرار عند تقييم الأداء، ويكون دافعا للجهات المعنية بإدارة المنظومة الإعلامية والإبقاء عليها لتحقيق المزيد من النجاحات، فغالبية المؤسسات تعاني من أوضاع دفعت الجمهور للانصراف عنها والتوجه إلى شبكات التواصل الاجتماعي.
ويخشى صحافيون عاملون في مؤسسات قومية أن يكون قرار تأجيل حركة التغييرات مقدمة لغلق ودمج المزيد من الإصدارات لترشيد النفقات والحد من الخسائر لتلحق بباقي الإصدارات التي تم إغلاقها، وتحويل بعضها إلى إصدارات إلكترونية تحت مظلة سوق أخرى، ولا توجد رغبة لانتشال الصحف من عثراتها.
وقررت الهيئة الوطنية للصحافة المعنية بالإشراف على المؤسسات الصحفية الحكومية من قبل دمج إصدارات ورقية يومية وأسبوعية مع أخرى تحت إشراف تحريري واحد، تنفيذا لقانون الصحافة والإعلام الذي كانت أقرته الحكومة، وتم تطبيقه مع وجود نفس الوجوه من القيادات الصحفية التي تم الإبقاء عليها، لاسيما أن الدولة تعاني أزمة اقتصادية حادة، وتفتقر للقدرة على استمرار الدعم المالي للمؤسسات الخاسرة.
وهناك شريحة كبيرة من الصحافيين المصريين على قناعة بأن ما يحدث داخل بعض المؤسسات الصحفية الحكومية “تحرك متعمد”، هدفه استمرار الإعلام الرسمي على الحالة الراهنة، لإيجاد حجة أمام الهيئات المعنية بإدارة المنظومة للتوسع في دمج إصدارات وإلغاء أخرى، إذا لم تكسب ماديا وتناقصت شعبيتها، والأفضل خروجها من المشهد برمته لتقليل الخسائر المالية ووقف الدعم المقدم لها.
كما أن الإبقاء على الكثير من الوجوه الصحفية ولو بشكل مؤقت، ليس بجديد، طالما أن حركة التغييرات في القيادات التي شهدتها الصحافة طوال الأعوام الماضية كانت مناقضة لطموحات العاملين فيها، من حيث اختلال معايير انتقاء الكوادر، واختيار عناصر محدودة الموهبة لم تقدم ما يتناسب مع ما تحتاجه الصحافة من مهنية وموضوعية وتوازن بشكل يعيد إليها الاعتبار أمام الجمهور.
وما يثير استنكار الكثير من المتابعين أن المؤسسات الصحفية لديها الكثير من الكفاءات التي تستطيع بسهولة أن تنقل هذه المنابر إلى مكانة تستحقها، لكن في كل مرة يجري اختيار عناصر بعينها لمجرد خدمة الحكومة أكثر، مع أن النظام لم يستفد سياسيا من ذلك، بل خسر منابر كانت وسيطا له تأثيره وشعبيته، ويستطيع توصيل رسائل السلطة إلى الداخل والخارج بشكل مهني، وهو ما لم يعد موجودا في الوقت الحالي.
وقد يقود التجديد المؤقت للقيادات الإدارية والتحريرية في الصحف الحكومية إلى تغييرات واسعة، لكن غضب الكثير من صحافيي المؤسسات القومية مرتبط بأن كل تأخير يحدث في عملية تجديد الدماء داخلها يعرضها لخسائر جديدة مادية ومهنية وجماهيرية، وليس هناك رفاهية في الوقت كي يتم الإبقاء على عناصر أخفقت بشكل واضح في المسؤولية، طالما أن البديل يتوافر وبأعداد كبيرة، والمهم الإرادة السياسية.
وتعيش مصر مرحلة دقيقة من التحديات على أصعدة مختلفة، غير أنها تعاني من تهاوي قيمة الصحف والقنوات عند الجمهور، مع أن الحكمة تقتضي تقوية الإعلام الرسمي في الظروف السياسية الحرجة ليكون سلاحا داعما للدولة في مواجهة الخصوم بالداخل والخارج بشكل احترافي كي لا يبدو موجها أو مقصودا، لكن الواقع الصحفي لا يحقق ذلك في ظل الإبقاء على قيادات لا تعي تلك المهمة أو طريقة تنفيذ الحد الأدنى منها.
وإذا حاول بعض الصحافيين داخل هذه المؤسسات تقديم محتوى مهني وموضوعي يوازن بين دعم الحكومة ونقل نبض الشارع ومناقشة قضايا مسكوت عنها، يواجهون جملة من الخطوط الحمراء جراء السياسة التحريرية التي ترفض كل ما هو مناهض للرواية الرسمية، حتى أن الكثير من الإصدارات تحول إلى نشرات يومية، سواء أكانت صحفا ورقية أم مواقع إخبارية يفترض فيها مواكبة البحث في خلفياته وأبعاده.
وثمة متفائلون بقرار الإبقاء على الوجوه القيادية في المؤسسات الصحفية إداريا وتحريريا كي تكون أمام دوائر صناعة القرار السياسي والإعلامي في الحكومة فرصة أكبر لانتقاء عناصر تتمتع بكفاءة ومهنية واحترافية، لأن التغيير لمجرد التغيير سيزيد الأزمة تعقيدا، مع أن الدولة في حاجة ملحة إلى تقوية إعلامها الرسمي، ما يتطلب التريث في اختيار القيادات، وأن التجديد للقدامى لا يعني الثقة ببعضهم، بل وضعهم على حافة الرحيل.
وأكد يحيى قلاش نقيب الصحافيين السابق أن مشكلة الصحافة القومية في مصر أبعد من الأسماء، والمطلوب على وجه السرعة وضع سياسة تحريرية مرنة توازن بين دعم الحكومة ونقل نبض الشارع، مع حتمية التنوع وتقديم محتوى رصين لا الترويج لوجهة النظر الرسمية فقط، وهذا دور الحكومة في أن تترك الحرية للقيادات الصحفية وانتقاء من يستحقون تحمل هذه المسؤولية بمعايير مهنية حتى لا تخسر الدولة أحد أهم قوتها الناعمة.
وأضاف لـ”العرب” أن الواقع الراهن في المؤسسات الصحفية بقاء الوضع كما هو عليه، مع أن المهنة تتغير بشكل متسارع لتواجه تطورات العصر، ولا وقت للتراخي أو التأخر عن التطوير التحريري والإداري، لأن ذلك يقود إلى المزيد من الخسائر، والحكومة هي الخاسر الأول لأنها تهدم منبرا مهما يستطيع أن ينقل صوتها للناس، وعليها أن تُدرك أن المؤسسات القومية مملوكة للشعب وعليها أن تتحدث بلسانه، وإذا حدث ذلك ستتغير جذريا.
وتوجد شواهد تؤكد أن الحكومة لم تعد تكترث بالصحف القومية كوسيط مؤثر مع الشارع، إذ تندر فيها الحوارات الحصرية مع كبار المسؤولين، مع أن الرئيس عبدالفتاح السيسي الذي اعتاد أن يحاور رموزها على فترات متقاربة لم يتحدث إليها منذ فترة، وكأنه يبعث برسالة احتجاج ضمنية لهذه المؤسسات، ما يفرض على الحكومة تسريع عودة الحيوية إلى الصحافة قبل أن تصل إلى مستوى غير مسبوق من الترهل.