الأيديولوجيا تحدّد مخرجات الجامعة الإسلامية في الجزائر

باتت المحاصصة الفكرية والمذهبية من أهم الصراعات الخفية التي تنخر الجامعات الإسلامية في الجزائر. وفي هذا الإطار دقّ أستاذ العلوم الإسلامية في جامعة الجزائر رضوان ناش ناقوس الخطر، محذرا من تغلغل التيارات الدينية العنيفة وتأثيرها في تكوين النخب الجامعية.
الجزائر – رغم أن استقالة أفراد من الطاقم الإداري والبيداغوجي في كلية العلوم الإسلامية بجامعة وادي سوف في أقصى الجنوب الشرقي للجزائر خلال الأشهر الماضية، كانت تحت يافطة “الخوف من الله من التسليم بإملاءات جهات خارجية”، إلا أن مسألة التجاذب المذهبي والديني داخل الجامعات والمعاهد الإسلامية في البلاد، أخذت أبعادا جادة وشاملة ومقلقة بشهادة فاعلين في القطاع.
وأفاد أستاذ العلوم الإسلامية في جامعة الجزائر رضوان ناش بأن “شهادة الدكتوراه باتت تخضع لمعيار المحاصصة المذهبية في كلية العلوم الإسلامية بجامعة الجزائر وليس لمعايير البحث العلمي في كلية العلوم الإسلامية – الخروبة – بجامعة الجزائر، وهذا وسط تعتيم إعلامي رهيب يشترك فيه جميع المشتركين في عملية منح هذه الشهادة والمتمثلين في لجنة المناقشة”.
ومع دعوة ناش إلى فتح تحقيق في دراسة الملفات المعالجة على مستوى الجامعة لطلبة الدكتوراه من طرف لجنة مستقلة للوقوف على مدى تأثير الانتماء المذهبي على قرارات اللجان والأساتذة، يكون جرس إنذار آخر قد دقّ من أجل الالتفات إلى ما يحدث داخل أسوار المعاهد والجامعات الإسلامية في الجزائر، جراء تغلغل تيارات دينية ومذهبية وتأثيرها في مخارج النخب الجامعية.
تيار إخواني مسيطر
بالرغم من أن المسألة ليست وليدة اليوم، فقد سبق لتيار الإخوان أن هيمن على تلك المؤسسات منذ ثمانينات القرن الماضي، إلا أنها أخذت في السنوات الأخيرة أبعادا خطيرة مع بروز تيارات ومذاهب تعمل في هدوء بعيدا عن أعين ميثاق الشرف الجامعي والعلمي، واستطاعت أن تكون لنفسها لوبيات نافذة لخدمة أجنداتها الدينية بدل التحصيل الأكاديمي.
ولأن علاقة الأستاذ بالطالب وثيقة وقائمة على التأثير والتأثر، فإن الراهن ينذر بوقوع أجيال من النخب الجامعية أسرى لدى مجموعة من الدوائر الدينية والأيديولوجية، حتى ولو كان ذلك يتنافى مع رسالة الجامعة ومع التخصص ومع توجهات السلطات المختصة لإرساء مرجعية دينية محلية، تفاديا لأي انجرار وراء تيارات مستوردة جلبت الويلات للاستقرار والتماسك الاجتماعي والفكري.
ويرى ناش أن “التعليم الديني من أعقد المسائل التي تؤرق الحكومات المعاصرة لما له من علاقة متشابكة مع السلوك والفكر والأمن والنسيج الاجتماعي وحتى المواطنة، لذلك تسعى الحكومات إلى تنظيمه وتأطيره وإسناد هذه المهمة الخطيرة إلى الأكفاء من الأساتذة والمفكرين المطلعين على مآلات هذه العملية التي ظاهرها التقرّب من الله والتفقه في الدين، ونهاياتها ظلال تنعكس على المجتمع والأسرة والفرد والقانون الذي يضبط علاقة الجميع ببعضهم البعض والمصير المشترك الذي ينتظر هؤلاء ومن يليهم من الأجيال”.
ويضيف “تأثير الأستاذ في طلابه أمر متوارث منذ القدم، سواء في العلوم التجريبية أو النظرية أو حتى العلوم الغريبة، وهو في التعليم الديني أشد وأوثق، حتى أن الكثير يحسبه من السنّة النبوية فيقول إن النبي (صلى الله) ترك أثره في أصحابه كيف لا يؤثر من نقل عنه في طلابه، ومن هذه المغالطة الدينية تشعّبت الفرق والطوائف الإسلامية حيث اتخذت كل جماعة منهجا معيّنا في الاستدلال واختارت مراجع اعتبرتها أوثق من غيرها، بل بالغ البعض في اتخاذ لباس خاص بطلابه، متناسيا أنه بذلك الأمر ينشئ جماعة دينية ذات خصوصية داخل المجتمع الإسلامي”.
وتابع “وهذا ما يقوم به الأستاذ في سعيه إلى إنشاء جماعة أخرى ذات تميّز حتى تعددت البصمات وكثرت الحلقات ونظر البعض إلى البعض الآخر بعين الريبة بسبب هذه الشبهة الدينية التي لم يفهم الكثير من الأساتذة كيفية تطبيقها على منهاج السنّة الشريفة التي جمعت المسلمين في مسجد واحد، بل وكذلك أهل الذمة من غيرهم في نسيج بديع غاب عنا لذات الاعتبار كيفية صياغته بحيث ينسجم الجميع تحت خيمة الإسلام كل المواطنين باختلاف مستوياتهم، ويبقى المسؤولون عن الحقل الديني هم من يتحملون هذه الانشقاقات داخل النسيج الاجتماعي بسبب عدم اتضاح الرؤية لدى الكثير منهم”.
صراعات خفية

يرى عارفون بشأن تمدّد التيارات الدينية وتنافرها داخل النسيج الاجتماعي الجزائري، أن الخطاب المروّج له في الدوائر الرسمية يخفي وراءه صراعات صامتة داخل العديد من المؤسسات الدينية بما فيها السيادية، أين تتشكل لوبيات نافذة تعمل على توسيع امتدادها ونفوذها في المشهد الديني.
وذكر هنا مصدر رفض الكشف عن هويته أن “الخطاب المروّج لدى الرأي العام يخفي وراءه صراعات خفية خاصة في المعاهد والمؤسسات الدينية، أين تتم عملية إخضاع الأئمة المتخرّجين إلى مسح مذهبي وأيديولوجي سيطر عليه بشكل لافت خلال السنوات الأخيرة التياران الإخواني والسلفي، بينما أخذت مذاهب أخرى مسارات أكثر تخفيا تفاديا لأي صدام مع الوصاية أو الشارع بشكل عام”.
وعاد الأستاذ شان في مساهمة تحليلية للظاهرة خصّ بها “العرب”، “تعود الجذور التاريخية لاختلال منظومة التعليم الديني في البلاد إلى العقود الأولى للاستقلال لمّا استعانت الحكومة بالخبرات العربية المشرقية، وتأثير مختلف المدارس الدينية في مخارج التكوين والتحصيل الديني”، والذي امتد بشهادة الكثير عبر رواج مدارس إخوانية وسلفية في دول مشرقية كاليمن، صارت إلى غاية العقد الأخير وجهة مفضلة لطلاب علوم الدين من الجزائر.
وذكر المتحدث أن “المؤثرات الفكرية والسياسية التي كونت المشرق العربي بصورته الحالية، هي التي خلقت هذه المناهج المذهبية التي اشتد الخلاف بينها بعدما كان يقال إنها مجرد اختلافات في فروع الدين التي لا تفسد للودّ قضية بين المسلمين الذين تجمعهم العقيدة الواحدة والتاريخ والمصير المشترك، لكن الأحداث السياسية أظهرت زيف هذا الكلام وخلافا عميقا، وعلى الجزائر تمحيص ما يأتيها من أفكار دينية حتى لا تصير إلى ما صارت إليه شعوب المشرق من دمار وفتن تغذيها الاجتهادات الدينية”.
الأئمة المتخرجون يخضعون إلى مسح أيديولوجي يسيطر عليه التياران الإخواني والسلفي بشكل لافت خلال السنوات الأخيرة
وأضاف في تلميح إلى تكريس النمط التعليمي لعلوم الدين للتعصب والتطرف أن “النوايا الطيّبة والصادقة توافقت على إرساء قواعد المرجعية الدينية الوطنية دون تهميش أو إقصاء أو تفضيل منهج على حساب آخر، لكن مع وجود أساتذة ومفكرين متعصبين لنظرة ‘المشيخة’ (المشايخ)، ومؤمنين بأن الحق المطلق في آرائهم، سيؤخر هذا الحلم الفكري والشعبي، وسيكون المجتمع غرضا للفتاوى الارتجالية والحملات الثقافية الخطيرة على الاستقرار والتماسك الاجتماعي”.
وذهب في هذا الشأن إلى أن التحصيل والتخرج لا يخضعان في العموم إلى المقاييس المعمول بها، وأن دخول الانتماء المذهبي والفكري بين الأستاذ والطالب عادة ما يكون حاسما في مصير النتائج النهائية بمحيط الجامعة التي يشتغل بها، وهو أمر يسقط على مؤسسات جامعية أخرى بشهادة طلبة وأساتذة آخرين، الأمر الذي يكرّس وجها قاتما للتعليم الديني وتحكم المزاج الأيديولوجي في مخرجات الجامعة الإسلامية.
وفي تشريح أعمق لما يدور داخل تلك الأسوار يقول أستاذ العلوم الإسلامية “يتوجه أغلب الطلبة أو كلهم إلى دراسة العلوم الإسلامية برغبتهم الذاتية، سواء كانت القناعة الشخصية أو بحكم البيئة الأسرية أو غيرها، لكن ليس كل الطلاب يكملون مسارهم الدراسي، وهذا الإخفاق أو التغيير يجد له تبريرات كثيرة منها قدرات الطالب ومدى استيعابه أو ظروفه الخاصة، لكن ما لا يناقش هو مدى انسجام الطالب مع الأستاذ بخصوص القناعة الشخصية أو تحييد الخلافات عن هذه الرابطة الوثيقة”، الأمر الذي يبرز حجم التنافر داخل التعليم الديني العالي.
