الأمن الإنساني بديل للتحرر في رسم علاقة مصر بأفريقيا

تأخذ قضايا الأمن الإنساني حيزا واسعا في العلاقات المصرية مع بلدان أفريقيا، واليوم تبني القاهرة دبلوماسيتها الجديدة على أساس الحضور التنموي ضمن مجالات مختلفة، في محاولة لاستعادة دورها، الذي تراجع في القارة، مقارنة بفترات سابقة ساندت فيها ثورات التحرر الوطني، وأسهمت بدور فاعل في تأسيس منظمة الوحدة الأفريقية.
القاهرة- ركزت مصر مؤخرا على تنفيذ رؤيتها الجديدة للعلاقات بينها وبين العديد من دول أفريقيا في مجالات مختلفة، أو ما يمكن توصيفه بمشروعات “ربط المصالح المشتركة”، التي تضمن حضورا لها، خاصة في كل من السودان وليبيا، والانطلاق منهما إلى مناطق تمثل عمقا استراتيجيا مهمّا في شرق القارة وغربها ووسطها.
وازداد زخم ذلك، حينما أعاد المجلس التنفيذي للاتحاد الأفريقي الأحد الماضي، انتخاب مرشحة مصر أماني أبوزيد في منصب مفوض الاتحاد الأفريقي للبنية التحتية والطاقة والمعلوماتية والسياحة لفترة ثانية لمدة 4 سنوات، وحازت على أصوات 50 دولة من أصل 55، ما يبرهن على قوة الدور المصري في هذا المجال.
وحمل البرنامج الذي تبنته أبوزيد خططا نحو تيسير النفاذ إلى مصادر الطاقة المُختلفة، وتعزيز شبكات النقل وضمان أمنها واستدامتها، والارتقاء بقطاع السياحة الأفريقية وإطلاق سوق الكهرباء الموحدة، بما يُحقق هدف القارة في ضمان توافر الكهرباء المطلوبة للتنمية.
وتتمدّد مصر في مشاريع الربط الكهربائي، بدءا من السودان عقب افتتاح المرحلة الأولى للربط الكهربائي بقدرة 70 ميغاواط، على أن تصل إلى 3 آلاف ميغاواط، ويتيح هذا المشروع إمكانية الربط بين مصر وإثيوبيا ودول أخرى في حوض النيل.
دوائر متداخلة
تسعى القاهرة إلى تحقيق أهداف متعددة عبر مشروعات الطاقة، استباقا لصراع منتظر مع إثيوبيا باكتمال تشغيل سد النهضة، ما يجعلها أكثر انفتاحا على دول حوض النيل الشرقي، حيث تدرك مصر حاجتها إلى الكهرباء مع اتساع مشروعات التنمية.
وكشف وزير الكهرباء والطاقة المتجددة، محمد شاكر، أن هناك خطة لربط شبكات دول حوض النيل في شبكة واحدة يمكنها تلبية متطلبات شعوب هذه الدول، عبر الربط الكهربائي بين السد العالي في جنوب مصر وسد إيجا بالكونغو، وفقا لدراسات ذهبت إلى أن الأخير يعد أهم مصادر الطاقة النظيفة لإنتاج قدرات كهربائية تكفى الدول الأفريقية المجاورة، ويمكن تصدير جزء منها إلى أوروبا.
وقال الباحث المتخصص في الشؤون الأفريقية، أيمن السيد عبدالوهاب، إن “النفوذ المصري في القارة يرتبط بالقضايا الحاكمة في الفترات الزمنية المختلفة، ومثلما كان التركيز على قضايا التحرر الوطني في ستينات القرن الماضي فالتنمية هي الأكثر حضورا على الساحة حاليا، وهو ما تستغله مصر لتفعيل أدواتها”.
وأوضح لـ”العرب” أن قضايا الطاقة والغذاء والبنية التحتية والربط مع بلدان القارة هو المدخل الأهم في الوقت الحالي وتستطيع مصر أن تشكل فيه قيمة مضافة وسط المنافسة الشرسة بين قوى إقليمية عديدة ذات نفوذ، وتركز القاهرة على المكاسب التي يمكن أن تقدمها من خلال تحقيق الاستفادة بشكل أكبر ممّا تحققه الشركات الاستثمارية العملاقة، عبر مشروعات البنية التحتية.
ركزت مصر خلال فترة ترؤسها للاتحاد الأفريقي (2019- 2020)، على قضايا التبادل التجاري بين بلدان القارة، وتبنّت خطابا مستقبليا يدعم التكامل التنموي بين دول القارة وفقا لمحاور أجندة التنمية الأفريقية لعام 2063، ودعمت خروج منظمة التجارة الحرة الأفريقية إلى النور قبل عامين تقريبا.
وأعلن وزير النقل كامل الوزير، أمام البرلمان مطلع هذا الشهر، عن خطة الحكومة بشأن مشروعات الربط في مجال النقل مع دول القارة، مشيرا إلى تبنّي عدة مشروعات تستهدف تطوير البنية التحتية وطرق الربط بينها وبين 9 دول أفريقية، وإنشاء أطول طريق بري يبدأ من مدينة السلوم غرب البلاد وحتى مدينة بنغازي الليبية ليصل بعد ذلك إلى تشاد ثم الكونغو.
ويرى عبدالوهاب أن مصر تنطلق من موقعها الجغرافي وتتحرك في مجالها الطبيعي ولديها من الرصيد التاريخي والإنساني ما يجعلها أكثر قدرة على التنافس مع الحضور التركي، وتلعب الدبلوماسية المصرية على وتر قبول شعوب أفريقيا بها، وتذهب باتجاه تقديم المساعدات التنموية في مجالات مختلفة داخل بلدان القارة، وإن لم تكن مشاركة فيها.
ويؤكد العديد من المتابعين أن الدبلوماسية المصرية وسّعت دائرة تعاونها مع دول القارة وذهبت إلى مواقع جغرافية لم تصل إليها منذ سنوات طويلة، مثل غانا، وقد تجسّد ذلك في استحواذ شركة مصر للطيران على 75 في المئة من أسهم شركة الطيران الغانية الحكومية على أن تكون الإدارة للجانب المصري.
صراعات وحسابات متداخلة
مصر لا تغفل التنافس القوى مع قوى منافسة لها، وتحاول تعزيز حضورها التنموي بما يجعلها أكثر قدرة على الإمساك بأوراق فاعلة
لدى مصر رغبة كبيرة لتكون حاضرة بقوة في منطقة القرن الأفريقي، والتي تشكل أساس التنافس الإقليمي، ويتضاعف فيها الحضور التركي، حتى لا تترك فجوات يمكن أن تؤثر سلبا على أمنها القومي، إضافة إلى المناطق التي تشكل مناطق رخوة ومرشحة لتصاعد الصراعات فيها، مثل منطقة الساحل والصحراء التي جرى نقل الكثير من عناصر التنظيمات الإرهابية إليها.
ويقلل بعض الخبراء من فكرة أن القاهرة انسحبت كرها من أفريقيا خلال عهد الرئيسين السابقين أنور السادات وحسني مبارك، حيث كانت لديها أولويات وملفات لم تكن لها علاقة مباشرة بتطوير العلاقات مع دول القارة في ذلك الوقت، واختارت فقط الابتعاد عن الملفات الساخنة والصراعات للتفرغ لهمومها المباشرة، وهو ما أثر على انخراطها في هموم وقضايا القارة.
وذهب هؤلاء إلى التأكيد على أن الاهتمام الإقليمي بالاستثمار والتنمية في أفريقيا ترتبت عليه محاولات تحييد الدور المصري، وتأسيس منظمة “الإيقاد” في ثمانينات القرن الماضي استهدف استبعادها من التعامل مع أزمات المنطقة، وكانت القاهرة ممسكة ببعضها، وخلت هذه المنظمة من مصر لصالح المزيد من الهيمنة الإثيوبية.
تشكل التحولات السياسية في بعض دول القارة، وعلى رأسها الإطاحة بنظام الرئيس عمر البشير في السودان، عاملا مهما في الانفتاح المصري نحو أفريقيا على نحو أكبر، والقاهرة تأثرت سلبا بأدوار الممانعة التي مارسها البشير بعلاقاته المتوترة معها، وما ساعد على ذلك استسلام مصر دون البحث عن أدوات فاعلة للتحرك.
أكدت أستاذة العلوم السياسية بمركز الدراسات الأفريقية بالقاهرة، هبة البشبيشي، أن القاهرة تستهدف البحث عن منافذ تمكنها من سدّ فجوات التباعد مع شعوب القارة، بعد أن تباعدت المصالح إلى حدّ كبير وانحازت أطراف أفريقية عدة إلى مشروعات معادية لمصر، وظهر واضحا من خلال أزمة سدّ النهضة، أنها تجد صعوبات في إدارتها على المستوى الأفريقي.
وأوضحت لـ”العرب”، أن الجهود المصرية في مجالات الكهرباء والنقل تسعى إلى ملاحقة حركة التطور في القارة، والتي تقودها قوى إقليمية لديها أجندات تتعارض مع المصالح المصرية، وتبذل دبلوماسيتها قصارى جهدها حاليا لإنهاء الانفصال عن الواقع في أفريقيا، ومن المتوقع أن يكون هناك منحى صاعد للعلاقات الاقتصادية.
وأشارت إلى أن مصر لا تغفل التنافس القوى مع قوى منافسة لها، وتحاول تعزيز حضورها التنموي بما يجعلها أكثر قدرة على الإمساك بأوراق فاعلة، حتى وإن كان ذلك بعيدا عن المجالات التكنولوجية والأمنية المباشرة التي تتوسع فيها دولة مثل إسرائيل، غير أن الأمر بحاجة إلى تنسيق مصري أكبر.
ركزت مصر خلال فترة ترؤسها للاتحاد الأفريقي (2019- 2020)، على قضايا التبادل التجاري بين بلدان القارة، وتبنّت خطابا مستقبليا يدعم التكامل التنموي بين دول القارة
ويبقى التحرك المصري على المستوى الأمني حاضرا بقوة في أذهان الدبلوماسية، كإحدى الأدوات الداعمة للحضور مستقبلا، غير أنه يواجه بتقديرات ترى أهمية أن يكون ذلك التحرك من خلال الأمم المتحدة وليس من خلال الاتحاد الأفريقي وفقا للضمانات التي تحصل عليها القوات المشاركة صمن حفظ السلام، بما لا يجعل القاهرة طرفا مباشرا في أيّ نزاعات في القارة.
ولعل ذلك ما يجعل التركيز المصري ينصب على المشروعات التنموية مع الدخول كطرف غير مباشر في حل النزاعات، وهو أمر تتوقف نتائجه على عمق الإرادة السياسية في التوجه نحو أفريقيا، وتعزيز التعاون معها، ومدى المقاومة التي سوف توجهها القاهرة من بعض الدول التي تنظر إليها باعتبارها طرفا منافسا لطموحها مستقبلا، كما الحال بالنسبة إلى كل من نيجيريا وجنوب أفريقيا.