الألثغ

لم يكن صاحبي قد قرأ شيئاً عن واصل ابن عطاء، أحد كبار العقلانيين في الإسلام، ومؤسس فرقة المعتزلة الكلامية التي اشتهرت بالجدال والمناظرة.
الأحد 2021/08/15
اللغة العربية الفصحى.. بين المنطوق والمكتوب

كان صاحبي في مهجره البعيد، قد انتقى لنفسه صحبة نافعة مع شاب مبتعث للدراسة أوشك على التخرج، وهو من أسرة مرموقة في بلادها. فصاحبي كان يخطط للإقامة في بلد صاحبه الجديد، ويريد أن تكون له شفاعة تعينه على شق طريقه في الحياة. ولما توثقت الصحبة، بفضل خدمات توافر عليها لابن الأسرة الميسورة في أكناف الحكم، افتعل زيارة سريعة لبلد صاحبه، وزعم أنه لا يحمل حقيبة سفر، وبإمكان صاحبه أن يرسل لأهله ما يريد أو يريدون، وهكذا كان!

في زيارته السريعة تلك، زار الأسرة الوجيهة لكي يسلم الأمانة، ثم ثابر على زيارتها لعلهم يرسلون لابنهم شيئاً، ثم حدثهم عن نفسه متعمداً إظهار مزاياه. وعاد بما يحمل من الأسرة لابنها، ومع حرصه على أن يبدو حسن القول والفعل وزرب اللسان، أخفى عن الأسرة عيباً محرجاً في النطق. فهو يلثغ في حرف الراء. لذا وطد العزم على تحاشي هذا الحرف الأكثر تكراراً في الكلام. نجح في مجانبة هذا الحرف العسير، إلى سواه من الحروف. فالطعام هو خبز وملح، وسرير النوم مضجع، والمطر غيث، والحفر نَبش، وبرع في استخدام المترادفات!

لم يكن صاحبي قد قرأ شيئاً عن واصل ابن عطاء، أحد كبار العقلانيين في الإسلام، ومؤسس فرقة المعتزلة الكلامية التي اشتهرت بالجدال والمناظرة، ومخترع تعبير “منزلة بين المنزلتين” ومعناها أن مرتكب الكبيرة ليس مسلما ولا كافرا، ولكنه في منزلة بينهما وإذا مات ولم يتب عن كبيرته فهو مخلد في النار. فقد كان واصل ألثغاً تُعجزه الراء، ونُقلت عنه خطبه عصماء، ذات قيمة فنية وتاريخية عالية، ارتجلها أمام جمع من العلماء والأمراء، استطاع خلالها أن يستغني عن حرف الراء، وهو كما أسلفنا، أحد أكثر حروف اللغة دوراناً في الكلام!

كانت الخطبة فقهية بامتياز، بقدر ما كان كلام صاحبي متجنب الراء دقيقاً وحريصاً على عذوبة النطق والكياسة الاجتماعية. وعلى الرغم من خلو ذهن صاحبي من تجربة واصل، التي لا علم له بها، وهي منذورة لمعاني القرآن الكريم وأساليبه ونصوصه؛ فقد أسس تجربته في إقصاء الراء عن سياق الكلام، لصالح مستقبل كان منذوراً له. والرجلان، أحدهما، القديم، عاش هياة قصيرة بدأت مع بدء القرن الثامن الميلادي، أما الثاني فهو عاش ولا يزال يعيش حياة طويلة، بدأت في منتصف القرن الماضي. والأول، واصل بن عطاء، تمكن من الفرار من الحرف الثقيل، مع حذق مبهر في اختيار الألفاظ البديلة التي ترادف تلك التي يقع فيها حرف الراء. وقال الأقدمون إن تلك كانت مقدرة فنية لا يستطيعها سوى الأفذاذ. والثاني، صاحبي، فعل الشيء نفسه بالبراعة نفسها، لكي تُستطاب رفقته لدى صديقه الميسور، رؤية ونطقاً. وفي بقية المقارنة، كان واصل في خطبته يُقدم أنموذحاً رفيعاً من الوعظ العميق في القرن الثاني للهجرة، يقترب من مستوى خطبتين شهيرتين لعمر بن عبدالعزيز وسليمان بن عبدالملك بن مروان الخليفة الأموي السابع الذي كان واليًا على فلسطين في عهد والده الخليفة عبدالملك بن مروان. أما سياق صاحبي، فقد كان محض استمالة لواحدة من الأسر التي يُرزق المرء في ظلالها. وفي سعيه هذا، استطاع أن يفتح ثغرة في دائرة الثراء الفاحش ينسل منها إلى حيث يعيش الناس الذين لا يعرفون أسعار الفواكه والخضروات واللحوم، وإنما يحملها الخدم إلى موائدهم بأي أثمان!

التقيت صاحبي مؤخراً، فرأيته مزهواً برزقه، دون أن يلثغ!

24