"الأفعوان الحجري" سيرنادا شرقية لفارس تدمري في ظلال سور هادريان

نوري الجراح يرد الاعتبار شعريا للمكون المتوسطي في ثقافة السوريين.
الخميس 2022/12/15
نوري الجراح يربط بين سوريا وبريطانيا عبر عاشق تدمري

يواصل الشاعر السوري نوري الجراح اشتباكه مع الأساطير والحفريات والتواريخ في مشروع شعري مختلف عن السائد، مشروع يذهب إلى استعادة أصوات الشرق المنسية وإعادة تركيب ملامح العالم دون زيف ومواربة، يستعيد الشاعر الهجرات الفردية والحكايات التي جمعت المشارقة بالغربيين وسكان شمال المتوسط بجنوبه، في كتابة جديدة لرحلة الإنسان، تربط الحاضر بالماضي، وهو ما يواصله في كتابه الشعري الجديد “الأفعوان الحجري” الذي صدر بالعربية والإنجليزية. 

ميلانو (إيطاليا)- يحمل الكتاب الشعري الجديد للشاعر السوري نوري الجراح عنوان “الأفعوان الحجري”، فيما يشير العنوان الفرعي في غلافه “مرثية برعتا التدمري لمحبوبته ريجينا” إلى قصيدة حب ذات طابع رثائي.

ويتألف الكتاب من قسمين، ضم الأول النشيد الرثائي وضم الثاني قصائد متصلة به، إذ يبدأ الجراح كتابه باستهلال عنونه بـ”ما قبل القصيدة” تلتها “إشارة تتعلق بالاسم” وهو ما يمكننا اعتباره تأطيرا لحكاية برعتا التي يرصدها الشاعر، ثم نجد القصيدة التي هي نشيد ملحمي أطلق عليه الشاعر صفة “سيرنادا شرقية”.

ووسم الشاعر القسم الثاني من الكتاب بـ”ما بعد القصيدة: أصوات وأنشودات”، وضم القصائد التالية: “أنشودة ريجينا عند النهر”، “رامي القوس من تدمرتا”، “ولادة المحارب المرقش”، “أخبار بوديكا “، “مرثية رومانية”، “لسان النار: The Ruin”، “أصابع جوليا دومنا المفقودة”، “مرسوم كاراكلا”.

قصة عاشقين

رد اعتبار
رد اعتبار

كشفت التنقيبات عن ضريح ريجينا في العام 1878 بالقرب من حصن أربيا (Arbeia) الواقع في منطقة ساوث شيلدز في الشمال الشرقي لبريطانيا قرب سور هدريان الشهير. وبينت الكتابات التدمرية واللاتينية أن باني ضريح الأمة السلتية ريجينا هو تدمري يدعى برعتا أحب هذه المرأة وحررها وتزوجها، ومنحها اسما رومانيا يعني الملكة، وعاش معها، ودفن إلى جانبها حين مات.

ويأخذنا الجراح إلى مدار الأسئلة منذ استهلال كتابه الشعري، فنتساءل معه من هو هذا المغامر القادم من الشرق ليحرر امرأة في الغرب ويسميها ريجينا، مستفزا ومتحديا سطوة النظام العبودي لروما؟ من هو برعتا التدمري ومن هي ريجينا السلتية، وقد قلب فلاح الأرض في بقايا حصن روماني في ظلال سور يتلوى كأفعوان حجري في قلب الجزيرة البريطانية، وأخرج لنا الاسمين؟

كيف قيض لفتى لوّحته شمس تدمر أن يحيط بذراعه السمراء خصر فتاة سلتية ذات جديلة حمراء، ويهيم بها، قبل ألفي عام، على التلال المشبعة بالخضرة في جوار سور هادريان، نزولا إلى نهر تاين، حيث يجدّف بالمراكب الصغيرة رجال سمر من نينوى عائدين بالأحمال من السفن، وهم يرددون بأصوات شجية ترانيم أشبه بصلوات غريبة.

ويبين أن سطرا تدمريا مدونا في حجر روماني أشعل مخيلة الشاعر، وله تدين هذه القصيدة الملحمية المفاجئة، والتي تضيف للمرة الأولى إلى ثقافة اللغتين العربية والإنجليزية، بلغة ملحمية زاخرة، أيقونة للحب العابر للجغرافيا والثقافات أقدم من كل ما عرفنا من أيقونات الحب المرتبط بالمأساة؛ إذ يفتتح هذا العمل الشعري وجودا فاتنا لقصة مذهلة الجمال وعميقة المعنى، سيبقى طويلا في ذاكرة الثقافة العربية وقراء الشعر.

الكتاب، الصادر مؤخرا عن دار المتوسط في ميلانو، مزود بإشارات مرجعية تضيء خلفية الملحمة الشعرية والقصائد المحيطة بها، والتي تشكل أصواتا وكينونات مرتبطة بها. ويصفها الناقد خلدون الشمعة في إحدى طيتي الغلاف بأنها ملحمة جسور، وعمل غير مسبوق في الشعرية العربية الحديثة.

ويقول الشمعة “في هذه الملحمة الجسور، تكمن رحلة شعرية مبتكرة لملمح مقموع عادة، ملمح مسكوت عنه أو ربما منسي كليا في التراثين الأدبي الإنجليزي والعربي. والحال أن كلا التراثين لا يمكن أن يقيما نقديا أو ينظر إليهما على النحو نفسه، بعد الآن، في ضوء هذا الأثر الشعري. رحلة الشاعر السوري هنا هي في تقديري سيرنادا شرقية الطراز، لحن يعزف في الهواء الطلق من قبل فارس تدمري قادم من الشرق ليحرر ريجينا السلتية القادمة من الشمال، عاشق يطل على شرفة محبوبته مسطرا شهادة أخاذة على القدرة على الإبداع الشعري، ولعلها مقاربة حداثية تجعل القدامة جنسا أدبيا ناطقا بالكشف والإضاءة”.

وجاء في قراءة الشاعر والمترجم البريطاني ترينو كروز ضمن الترجمة الإنجليزية للكتاب، والتي قامت بها المترجمة كاثرين كوبام، “باستعارات هادئة لا تعرف الخوف، ينقلنا نوري الجراح من شواطئ جزيرة ليسبوس الجريحة في ديوانه القوي السابق، ‘قارب إلى ليسبوس’ (2016) إلى ضفاف نهر تاين وشواطئ بحر الشمال الذي يكشف في ديوانه الجديد ‘الثعبان الحجري’ ببراعة قصة حب عميق”.

ويضيف كروز “بحكمة ملهمة، يسترجع الشاعر، مرارا وتكرارا، خيطنا المشترك وينسج منه حياة جديدة. إن غوصه العميق في الذاكرة يعزز علاقة غنية وخصبة مع الزمان والمكان. في مزيج من الأساطير والحكايات السلتية، والنرويجية، والأيرلندية، والأوغاريتية، والسومرية من بين حضارات أخرى، وقصائد باللغات اللاتينية والعربية واليونانية والإنجليزية، تضافرت حروفها جميعا لتخلق هذا الشعور بالوحدة والسيولة بين مختلف الأزمان والشعوب التي لا تختلف عن بعضها البعض كثيرا. هذه التأملات الجميلة تجعل قراءتها شيئا غير عادي”.

هذه القصيدة الملحمية تنقذ عاشقين غير عاديين وتخرجهما من غياهب النسيان: برعتا، سوري من تدمر، وريجينا، المستعبدة السلتية التي حررها وتزوجها، يرقدان الآن بجانب جدار هادريان منذ ثمانية عشر قرنا، ويرويان حكايتهما الفريدة. إن مرثية برعتا لزوجته الحبيبة التي ماتت وهي في الثلاثين من عمرها، لا تهدف إلى إضفاء طابع أسطوري على التاريخ، وإنما لنفهم أنفسنا.

رحلة الماضي والحاضر

 أقدم من كل ما عرفنا من أيقونات الحب المرتبط بالمأساة
 أقدم من كل ما عرفنا من أيقونات الحب المرتبط بالمأساة

بما أن الشاعر نفسه منفي من دمشق ويعيش في بريطانيا منذ قرابة أربعين سنة، فإن القصيدة تعزز روابط جديدة مع الحاضر، وتربط رحلته الشخصية مع رحلة سلفه القديم برعتا الذي قاوم العبودية بالحب. ويمثل شعر نوري الجراح الذي يحتضنه المنفى، محبوبته الوفية، تبادلا مكثفا وثمينا مع الحياة.

ويقول نوري الجراح “كتابي ‘الأفعوان الحجري’ على الرغم من كونه يهدم الجدران بين الأزمنة ليستلهم وقائع من العصر الإمبراطوري القديم هو عملياً حصيلة الخوض في المركزية الغربية التي مازالت مسيطرة على الحداثة العربية. إدوارد سعيد رفض المركزية الغربية، وأقول بتواضع إن جمالية تجربتي لا تكمن في النقض بل في النقد الباحث عن الحقيقة. وهي في المآل الأخير تطبيق شعري لما هجس به إدوارد سعيد في الموقف من المركزية الغربية في الثقافة”.

ويضيف الجراح “كل ما أستطيع قوله حيال السؤال في علاقة الشاعر بالجغرافيا هو إبدال مصطلح (مهجر) إلى (منفى). ولا أقصد بالمنفى إقامة خارج المكان كما عبر إدوارد سعيد، ولكنه انتقال من مكان إلى مكان في أرض كل حيز فيها هو منفى بامتياز لمن حملته التجارب والمعارف والخبرات على الشعور بالاغتراب بالمعنى الوجودي الشامل”.

ويبيّن أنه “إذا كان الاحتلال قد سطا على المكان الأول لإدوارد سعيد (القدس) وطرده خارج ذلك المكان، فقد سطا الطغيان على المكان الأول الذي ولدت فيه (دمشق) بوصفه قوة احتلال وجعلني خارج ذلك المكان. لجأ إدوارد سعيد إلى نيويورك، ولجأت إلى لندن. كلانا مشردان من مكان إلى آخر بفعل جريمة جماعية. وعلى الأرجح كان كل منا مغتربا في العالم بفعل السقوط من الرحم. الاستعمار والاستبداد وجهان لعملة القهر والاغتصاب”.

ويعتبر الروائي والباحث تيسير خلف أنه على الرغم من أن كتاب نوري الجراح يستلهم رموزا ومفردات وأحداثا تنتمي إلى حقبة من تاريخ الإمبراطورية الرومانية، كان السوريون فيها فاعلين ومنفعلين، قتلة وضحايا، حكاما ومحكومين، إلا أنه استلهام معني بأسئلة اللحظة السورية الراهنة التي غاب عنها اليقين، بل هو يعبر عنها بامتياز بلغة شعرية مبتكرة ومفاجئة. وقد حضر البعد الإنساني والتداخل الثقافي في الديوان  عبر صور شعرية أخاذة، وتعبير ملهم يتيح للشعر العربي اليوم أن يجدد أسئلته وموضوعاته معا في صيغ جمالية غير مسبوقة.

والشعر عند الجراح مرتبط كما يقول بالرحلة والسفر منذ نشأته، مضيفا “الشعر غالباً ما يصدر عن سفرين، سفر في المخيلة وسفر في الأرض. تجربة الشعر الإنساني كله تبرهن على هذا المعنى من معلقة امرئ القيس إلى قصيدة محمود درويش عربياً. ومن أبيغرامات الشاعر السوري باليونانية ميليا غروس الجداري إلى ملحمة دانتي العابرة للثقافات، فلطالما كتب الشعر بفعل مغامرة المخيلة المسافرة، وخفق أجنحة السفر في الأرض”.

وتجدر الإشارة إلى أن الشاعر ذيل قصائد كتابه بعدد كبير من الهوامش والإشارات المرجعية التي تضيء على الجوانب غير الشعرية من النصوص لاسيما التاريخية والجغرافية والميثولوجية، واختتمه بالإشارة إلى روابط لمصادر أركيولوجية وتأريخية عن اللوح الجنائزي الخاص بريجينا. وهي كتابات تدرس الأثر من زوايا بحث متعددة لغوية وتأريخية وتقلب الاحتمالات المختلفة المتعلقة بشخصيتي ريجينا وبرعتا، كما تكشف من خلال اللوح الجنائزي المكتشف عام 1878 بالقرب من حصن Arbeia الذي يعرف اليوم باسم South Shields، إلى الشرق من (Newcastle-upon-Tyne)‏، طبيعة ارتباط اللوح والشخصيتين بالفضاء الجغرافي لكل من الحصن الروماني وسور هادريان.

قصائد من "الأفعوان الحجري":

أصابع جوليا دومنا المفقودة أفكار الوصيفة بعد مقتلة الأخوين كم مرة سيغمد كاركلا سيفه في أحشاء الجندي الذي بتر أصابع الإمبراطورة “كان المقصود قتل الشقيق وليس تشويه يد الأم…”

هكذا كتب المؤرخ في صحائف ذلك اليوم.

ويا لها من فضيحة، أن تظهر الإمبراطورة في المأدبة بيد فقدت ثلاث أصابع.

حتى لو كان كاركلا سيرسل الجندي المذنب ليرمي نفسه من حافة الجبل فلن يتغير شيءٌ!

أما هي، سيدة روما المتحدرة من سلالة سورية نبيلة،

فلن تلتفت لتنظر أصابعها التي بترت وطاشت على الرخام، ولا الدم الذي نفر ولطخ الأرائك جسدها الذي استشعر نصل الشقيق على نحر الشقيق تخدر،

فجأةً ولم يبق في الحواس شيءٌ حي سوى تلك الانقباضة الأليمة في الرحم.

نباهتك التي جعلت مشرعي روما يستقبلون سيبتموس بإكليل الغار ذابت في كأس الابن القاتل كحبة الحنظل.

والآن، إلى أين مضت الوصيفات في ليلة الأخوين، بالأصابع المقطوعة لجوليا دومنا؟

أنشودة ريجينا عند النهر

لو كانت عندي أختٌ تمشط لي شعري ما حاجتي إلى نهر أو مرآة..

لننتظر مراكب الصيف، قال برعتا ففي مراكب الصيف

يصل التاجر الفينيقي وفي صندوقه أخطف المرايا، صنعت في أسواق صيدا نحاسيةً ومزججةً،

ولها إطارٌ من اللازورد وجرابٌ من جلد الغزال ونقش تميمة لبوصيدون..

أنظر وجهي في الماء وأراك، بجدائلك الصفراء، ورمشك المبلل.. سايتادا سايتادا..

لو كانت عندي أختٌ تمشط لي شعري، وفي جوارنا يمر الماء ما حاجتي بالمراكب والمرايا وبالفينيقي وصندوقه في الصيف.

رامي القوس من تدمرتا

اليوم لن أصعد إلى المعبد لا نذور عندي لجوبيتر، ولا حتى لبعل..

ما أفعل بآلهة لم تشف غليلي، ولو لمرة، بجواب عن سؤال. أعطيت ربع قرن من حياتي لهذا الهواء اللاسع، بعيداً عن شمس تدمر،

ووترت الأقواس لأنال من الفتى الكالذوني الملون بسهمي المجنح أما وقد نزلت عن السور بآلام في الركبة،

ودراخمات قليلة لا توصلني حتى إلى لوندينيوم على النهر، فلأجدف إذن، ليل نهار،

ولتسمعني آلهتي وتموت من الغيظ.. ما دمت لن أحظى، ولو في المنام، بمركب يحملني إلى بانياس والأرجح أن أموت وأدفن، هنا، في جوار هذا السور الأحمق،

ولا أرى سوريا مرة أخرى. هل ينتظر مني أنا المحارب الذي ضيع حياته في غابة يلتهمها الضباب أن أصحح لآلهتي الفاشلة أخطاءها المتكررة؟

13