"الأفروسنتريك" تضرب جهود الأفارقة في مقتل

كتابة تاريخ القارة السمراء يواجه تحديات الاستعمار وأدعياء "الأفروسنتريك".
الثلاثاء 2025/06/24
تشويه متعمد للتاريخ الأفريقي المشترك

عكس ما زعمه الاستعمار فللقارة الأفريقية تاريخ عريق ولشعوبها حضارات مختلفة عن الأمثلة الأوروبية وغيرها، وعكس المزاعم أيضا فإن تاريخ القارة السمراء متشابك إلى أبعد حد، وهو ما وعت به نخب ما بعد الاستعمار وأنجزت الكثير في سبيل كتابة تاريخ أفريقيا من جديد، قبل أن تظهر حركة “الأفروسنتريك” لتشوه هذه الجهود.

مرة أخرى، عادت ظاهرة “الأفروسنتريك” إلى الواجهة في شمال أفريقيا، وتحديدا في مصر بعد إعلان البروفيسور الأميركي كابا كاميني عن إنتاج فيلم وثائقي حول الأصول الأفريقية للحضارة المصرية القديمة، بعنوان “نيجوس إن كيميت”، وترجمتها “الملك في مصر” أو “الملك في الأرض السوداء”.

والأفروسنتريك، حركة دأبت على أن تنسب الحضارة المصرية القديمة إلى الأفارقة السود، مدعية أن مصر الحديثة تستولي على هذا الإرث وتنسبه إلى غير أصله.

التاريخ والاستعمار

الحركة المثيرة للجدل تأسست في ثمانينات القرن العشرين على يد الناشط الأميركي أفريقي الأصل موليفي أسانتي

في المغرب مؤخرا، أثار نشر صورة الملك الأمازيغي الشهير ماسينيسا جدلا وغضبا كبيرين، بعد ظهوره على غلاف رواية “مارتن كاريه” بلون أسود، ومزاعم بأن الرومان جلبوه من غانا وتوجوه ملكا على نوميديا.

الحركة المثيرة للجدل تأسست في ثمانينات القرن العشرين على يد الناشط الأميركي أفريقي الأصل موليفي أسانتي، الذي اشتهر بمؤلفاته الجدلية، والذي أنشأ معهداً للأبحاث باسمه يسعى من خلاله لإعادة تقييم وتقدير الثقافة الأفريقية وإثبات مركزيتها في الحضارات القديمة، وفق تقرير لهيئة الإذاعة البريطانية.

ومذاك، استمرت الحركة في إثارة جدل كان آخره سلسلة “الملكة كليوباترا” على نتفليكس، حيث اتهمت مصر المنصة بتزييف التاريخ بعد ظهور بطلة المسلسل بملامح أفريقية وبشرة سمراء، وهو ما يتعارض مع ما هو شائع عن كليوباترا ذات الأصول اليونانية.

المؤسف في هذه الحركة، أنها أتت بعد عقود طويلة من العمل المضني والشاق للأفارقة الذين عملوا بجهد قل نظيره لإعادة الاعتبار للقارة السمراء، التي قرر “التاريخ الاستعماري” في وقت مبكر أنها قارة بلا تاريخ، وأن كل ما حصلت عليه من تاريخ هو هبة من الاستعمار الذي كانت قبله في غياهب النسيان وبلا ذاكرة ولا هوية.

وقد أسفرت انتفاضة المثقفين الأفارقة جميعا على إثبات العكس، بعد أن عملت القارة شمالا وجنوبا، شرقا وغربا على إعادة صياغة تاريخها ونفض الغبار عنه، مجتمعة ومنفردة، مفنّدة رواية كتبة التاريخ في عهد الاستعمار فصلا فصلا.

أفريقيا استطاعت إعادة كتابة تاريخها الذي جحده الاستعمار لتؤكد على تداخل شعوب المنطقة والصلات في ما بينها

أولى تلك الجهود، كانت في إعادة كتابة تاريخ القارة السمراء كجزء واحد لا يتجزأ عن بعضه البعض، وهو ما لا يرضاه كتبة التاريخ الأوروبي، الذين دأبوا على تقسيم تاريخ القارة إلى شمال حي وجنوب ميت، عكس ما قاموا به تجاه التاريخ الأوروبي الذي يكتب مجملا لا منفصلا، عبر إشراقاته في أثينا، وتجلياته في روما، في حين يرفضون أن تكون التجليات الأفريقية في مصر والمغرب، تجليات لكل القارة، القضية التي رأى فيها مختصون إجحافا أكاديميا وحضاريا لقارتهم التي اتصلت حضارتها وأساطيرها الضاربة في القدم عبر منابع ومجرى نهر النيل، وصولا إلى منحنيات نهر النيجر أقصى الغرب.

ومنذ منتصف القرن العشرين، تواصلت جهود الأفارقة لإعادة صياغة تاريخ القارة عبر شتى المواد المتاحة، بدءا باستدعاء الأساطير، وصولا إلى استنطاق النقوش والكتابات وعبر الكتابة والذاكرة الشفهية والأنثروبولوجيا وغيرها من أدوات كتابة التاريخ.

ودون ريب فإن تجليات الشمال الأفريقي وبصماته كانت واضحة في الجنوب، بمثل ما حدث به الأمر في أوروبا التي أشرقت فيها أثينا على كهوف بقية القارة الراقدة في بربرية وسبات من التاريخ لم تنفكّ عزلته إلا بعد وصول الرومان الباحثين عن الثروات والأمجاد، والذين وصفوا شعوب غرب القارة أنهم “برابرة”.

وبدت القارة الأفريقية أكثر حظا إذ لم تخضع لغزوات عنيفة ولا حروب استنزاف مثل أوروبا، بل اتصلت حضاراتها بشكل أفضل عبر مجاري أنهارها وطرق قوافل التجارة التي نشأت في وقت مبكر من التاريخ، بين الشمال والجنوب، والتي اتسمت بتبادل تجاري قدم فيه الجنوبيون الذهب للشماليين مقابل الملح.

جهود توحيد القارة

pp

دون شك، فقد أدى ظهور دولة الإسلام وانتشار العرب في الآفاق وخاصة القارة السمراء إلى اتصال حضاري أكبر، وأدى إلى تدوين مبكر لتاريخ أفريقيا جنوب الصحراء، كما ظهر في كتابات ابن حوقل والبكري وابن خلدون وابن بطوطة وغيرهم، وهو التاريخ الذي اعتمد عليه الأوروبيون في معرفة الكثير عن أفريقيا وتاريخها.

وقد أدى قيام الممالك الإسلامية الكبرى في أفريقيا، المرابطون في المغرب، وملوك غانا ومالي، وبورنو، ووسينار، وغيرها دورا كبيرا في صناعة وكتابة واتصال التاريخ الأفريقي بعد أن ساد سلطانها في مناطق واسعة من القارة، أهمها منطقة الساحل الواسعة، التي أدت إلى اتصال كبير بين الشمال والجنوب، فتداخلت شعوب المنطقة وعاشت في وئام حتى دخول الاستعمار الأوروبي الذي قطع تلك الصلات ولم يغادر حتى ترك خلفه شعوبا متنافرة ومتناحرة.

اليوم، جنوب القارة قطع أشواطا كبيرة في بناء الصلات الحضارية والإنسانية مع الشمال، وبدأت القارة تستعيد اعتبارها الحضاري، بعد أن اعتبرت مصر، وكل الشمال بوابة ولوج إليها بمثل ما اعتبر الغرب روما مدماكا لحضارته، واستطاعت القارة كتابة تاريخها الذي جحده الاستعمار في الآلاف من المجلدات التي صدر في الخمسين عاما الماضية، والتي أشرفت عليها اليونسكو والمئات من الجامعات الأفريقية التي انكبت على مخطوطات فاس والقاهرة وتمبكتو وولاتة وكانو تتعقب فيها تاريخ أسلافها، وقامت إلى جانب ذلك بإضاءة كهوفها فاستخرجت رسوماتها ونقوشها وفكت طلاسمها، وهي الجهود التي وجدت تعاطفا وتعاونا من دول الشمال كافة، والتي أتت اليوم جماعة “الأفروسنتريك” لتشويهها بعد زعمها أن تاريخ الشمال ما هو إلا سرقة لتاريخ الجنوب.

13