الأغنية الأمازيغية من مواويل الأجداد إلى النغمات الرقمية

الموسيقى الأمازيغية ظهرت مع الإنسان الأمازيغي مثلما ظهرت باقي الأنواع الموسيقية الأخرى مع أهلها كلٌّ بلسانه وخصوصياته.
الجمعة 2024/01/19
موسيقى ميزت الغناء المغربي

الرباط - يحفل المغرب بالمئات من المواهب في الألوان الغنائية الأمازيغية. ومن بين المواهب هواة تعاطوا هذا الفن في الظل بغرض المتعة والاستئناس، وآخرون استثمروا مواهبهم الفطرية، فاحترفوا الغناء إبان الاستقلال، وأرسوا أسس الأغنية الأمازيغية الحديثة، وسار على دربهم مَن بعدهم، تقودهم عجلة التطوير والتجديد وتحفزهم الحاجة إلى مواكبة العصر.

من تماوايت إلى الغناء المعاصر مرورا بأحيدوس وباقي الأصناف الشعرية المُغنّاة، ظهرت الأغنية الأمازيغية في الأطلس المتوسط قبل قرون خلت، وتأقلمت مع الحقب الزمنية المختلفة، مُشكّلة عنصر إثراء للثقافة المغربية الضاربة جذورها في التاريخ.

ويرى الأستاذ الباحث في الفن والتراث الأمازيغيين عبدالمالك حمزاوي أن الموسيقى الأمازيغية ظهرت مع الإنسان الأمازيغي مثلما ظهرت باقي الأنواع الموسيقية الأخرى مع أهلها كلٌّ بلسانه وخصوصياته؛ فـ”الرجل الأمازيغي في الأطلس المتوسط، كان يغني وهو يحتطب أو يحرث أو يحصد، وكذلك كانت المرأة تفعل أثناء انهماكها في النسج أو غزل الصوف أو طحن القمح مثلا”.

وحسب الأستاذ حمزاوي، فإن فن تماوايت نتاج لبيئة الإنسان الأمازيغي في الأطلس المتوسط، إذ “كان يُستعمل في زمن الحروب لبعث الرسائل المشفرة من جبل إلى جبل، وفي زمن السلم للتواصل المرموز بين رجل وامرأة يجمعهما الحب ويؤرقهما الوجد”.

ومن مميزات هذا الفن اعتماده على اللحن والرسالة وقوة الصوت. وتعد الراحلة يامنة نعزيز تفرسيت المولودة في إقليم خنيفرة سنة 1930 أول من سجل هذا الفن، ولها في أرشيف الإذاعة الوطنية خمسة تسجيلات خالدة.

أحمد عيدون: نحتاج مقاربة موسيقية منهجية تحافظ على موسيقانا
أحمد عيدون: نحتاج مقاربة موسيقية منهجية تحافظ على موسيقانا

وإذا كان فن تماوايت وأحيدوس هما الأبوان الشرعيان للأغنية الأمازيغية في الأطلس المتوسط كما يقول الأستاذ حمزاوي، فإن الراحل حمو اليزيد المولود سنة 1927 في عين اللوح هو أول من نظم الأغنية الأمازيغية الأطلسية وأرسى قواعدها، قبل أن يسير على دربه من عاصروه أو جاءوا بعد رحيله بسنوات.

ومن الأسماء الأخرى التي عاصرت حمو اليزيد وساهمت في وضع الأغنية الأمازيغية في الأطلس المتوسط على سكتها الأولى، نذكر أوسيدي بناصر وموحى أوعلي أوموزون وإيشو حسن وغيرهم كثيرون.

وانطلاقا من إرث الرواد ظهر جيل ثان طور الأغنية بطريقته، ونقلها من مرحلة التأسيس إلى مرحلة إثبات الذات. من هذا الجيل فنانون لم يتعاملوا مع الآلات الموسيقية كما وُجِدت، بل غيروا خصائصها وطَوَّعوها لتتلاءم مع اللحن الأمازيغي والأبيات الشعرية المُغناة.

وحسب الأستاذ عبدالمالك حمزاوي، فإن “لوتار” -على سبيل المثال- ظهر بوترين اثنين فقط، قبل أن يُضاف إليه الوتر الثالث على يد مجهول. ويعود الفضل إلى الراحل محمد رويشة في إضافة الوتر الرابع مساهما بذلك في خلق مساحة أوسع لعزف المقامات الموسيقية الرائجة في الأطلس المتوسط.

وعلى عكس الراحل رويشة، عُرف الفنان أوعشوش لحسن بإزالته للوتر الرابع من آلة الكمان كي يتسنى له العزف براحة أكبر. ومن التغييرات التي طالت الآلات الموسيقية بالأطلس المتوسط تعويض جلد الماعز المستخدم في “البندير الأمازيغي” بجلد اصطناعي لا يتأثر ببرودة الطقس.

وفي ظل هذه التحولات أمكن للأغنية الأمازيغية أن توثَّق بشكل دقيق خلال الخمسينات من القرن الماضي؛ ذلك أن تسجيلات الأغنية الأمازيغية بشكل عام والأطلسية بشكل خاص بدأت -حسب الأستاذ حمزاوي- بشكل محتشم سنة 1952، لكنها تأكدت وتعززت بعد الاستقلال مباشرة عندما تم إطلاق القسم الأمازيغي بالإذاعة الوطنية، وكان الراحل حمو اليزيد أول من سجل في الإذاعة مستهلا هذه المرحلة المهمة من تاريخ الموسيقى الأمازيغية الأطلسية.

ونتيجة للتسجيلات الإذاعية وظهور أستوديوهات الإنتاج، وما أعقب ذلك من ثورة تكنولوجية ضخمة، أمكن للأجيال المتعاقبة أن تتمم رحلة الرواد بأشكال متنوعة؛ منها مثلا الفنانة الخنيفرية شريفة كرسيت التي كشفت أنها منذ انطلاق مسارها الفني سنة 1980 ظلت وفية لأسلوبها على مستوى الصوت، لكنها اضطُرت إلى مواكبة العصر من خلال الغناء مصحوبة بآلات موسيقية جديدة كالبيانو والأورغ وغيرهما.

علاوة على ذلك أوضحت الفنانة الأطلسية أن عصر السرعة فرض عليها أداء أغان قصيرة لا تتعدى 4 دقائق، هي التي كانت أغانيها القديمة تقارب الـ90 دقيقة.

وأبرز الفنان عبدالعزيز أحوزار أنه تعلم من جيل الرواد الشيء الكثير، لكنه سلك طريقا خاصا ينهل من الإيقاعات المغربية الأصيلة دون غيرها، ويحفظ للأغنية الأمازيغية الأطلسية تفردها عبر العالم، مشيرا إلى أن أسلوبه سمح له منذ سنة 1992 بإثراء خزانة الأغنية الأمازيغية بأكثر من 35 ألف شريط حتى الآن.

وعلى عكس أحوزار، كشف الفنان مصطفى أومكيل المولود سنة 1973 في القباب عن تأثره بفن الراي والموسيقى الهندية، مشيرا إلى أن أسلوبه الغنائي وإن كان مستلهما من هذين النوعين الموسيقيين وغيرهما إلا أنه يقدم الإضافة للأغنية الأمازيغية في الأطلس المتوسط. وما يتفق عليه الفنانان أحوزار وأومكيل هو أن الثورة التكنولوجية وإن ساهمت في انتشار الأغنية الأمازيغية وطنيا ودوليا، إلا أنها تسببت في ظهور جيل يعتمد على المؤثرات و”الخدع الصوتية” لإخفاء ضعفه الفني وجفافه الإبداعي.

◙ الأغنية الأمازيغية ظهرت قبل قرون خلت وتأقلمت مع الحقب الزمنية المختلفة، مُشكّلة عنصر إثراء للثقافة المغربية

وفي رده على هذا الموقف أكد الفنان الشاب نبيل باجا أن الهدف من الاعتماد على المؤثرات الصوتية والتوزيع الرقمي هو مواكبة العصر، وجذب الأجيال الصاعدة إلى الأغنية الأمازيغية، مشيرا إلى أن شهرته على يوتوب تعود إلى أسلوبه المبتكر في إعادة أداء أغاني الرواد والذي يمزج بين الأصالة الأمازيغية والإيقاعات الشرقية والغربية وغير ذلك.

وكشف الفنان الشاب يونس الهواري أن حبه للأغنية الأمازيغية دفعه إلى إنشاء أستوديو خاص به، مشيرا إلى أن أسلوبه الغنائي "ينهل من الأنماط الأمازيغية المعروفة، وفي نفس الوقت يواكب التطورات الرقمية على مستوى الموسيقى والصوت؛ فأغنية "نْدَّا نْدَّا" مثلا، قديمة في الأصل، إلا أني أخرجتها بتوزيع عصري جعلها تنال استحسان الجمهور".

وبين مُطالب بالتشبث بالألحان الأمازيغية الأطلسية الكلاسيكية وداع إلى الانفتاح على الإيقاعات العالمية، تشير الأبحاث إلى أن الأغنية الأمازيغية قد أثرت وتأثرت عبر الزمن بأنماط موسيقية مختلفة منحتها تفردا يثري الثقافة المغربية.

وفي هذا السياق يرى الأستاذ والباحث في الموسيقى أحمد عيدون أن المقامات التي تستعملها الأغنية الأطلسية مشرقيةُ الأصل، وأكثرها ورودا هي البياتي والصبا والحجاز. لكن هذه المقامات “تختلف عن مثيلتها المشرقية في صياغة الجملة الموسيقية ونحو خاص من الزخارف، كما أن ملحني الأطلس لا يستعملون من المقام سوى جنسه دون فرعه".

ويعتبر الأستاذ عيدون أن الأغنية الأمازيغية لها تأثير متبادل مع فن الملحون في ما يتصل بالأعاريض الشعرية (القياسات ولْمرمَّات)، وأن المقامات والإيقاعات الأطلسية أثرت في جوانب معينة من فن العيطة والأغنية الشعبية عموما.

وعلى عكس الطرب الأندلسي والملحون اللذين يحضران بقوة في المؤسسات الموسيقية المغربية، كشف عيدون أن معظم المعاهد الموسيقية في المغرب لا تُدَرس الأنماط الموسيقية الجهوية بما في ذلك الموسيقى الأمازيغية الأطلسية، مشيرا إلى محاولات سابقة لإدماج البعد الجهوي في التعليم الموسيقي من خلال تجربتين لم تستمرا، وهما إدخال الطقطوقة الجبلية في معهد طنجة وآلة الرباب السوسي في معهد أكادير. وأنهى حديثه قائلا “لقد حان الوقت للتفكير في مقاربة الموسيقى الأمازيغية بصفة منهجية وعلمية حفاظا على أنماطنا الموسيقية التقليدية، ومساهمةً في الرقي بها عبر مناهج ترتكز على تقوية التقاليد الشفوية بأدوات وتقنيات حديثة".

14