الأغنيات الشعبية للتركمان في لبنان يلفها النسيان وخطر الزوال

البقاع (لبنان) - يسعى تركمان وادي البقاع المنبسط بين سلسلتي جبال لبنان الشرقية والغربية، للحفاظ على تراثهم الثقافي الشفهي الغني الذي تناقلوه باللغة التركية لعدة قرون.
لسنوات عديدة، عاش تركمان القره قويونلو (أصحاب الأغنام السوداء) في المناطق بين سوريا ولبنان وعملوا في تربية المواشي، قبل أن يألفوا حياة الاستقرار في سهل البقاع في لبنان منتصف القرن الماضي.
وتركمان البقاع الذين يحتفظون بثقافة شفهية غنية نقلوا الأغاني الشعبية التي اعتادوا غناءها بلهجتهم التركية المميزة (التركية البقاعية) من جيل إلى جيل.
ومع ذلك فإن هذا التراث الشفوي الفريد معرّض لخطر الاندثار اليوم، بالتزامن مع زيادة نسب التعليم داخل المجتمع والاندماج مع اللبنانيين العرب.
تركمان البقاع الذين يحتفظون بثقافة شفهية غنية نقلوا الأغاني الشعبية بلهجتهم لكنها اليوم مهددة بالضياع
وبعض التركمان الذين يعيشون في القرى التركمانية بالبقاع (تعرف باسم “أوبا”) يقولون إنهم يحاولون نقل الموروث الشفوي والأغاني الشعبية التركية لأولادهم، وإنهم قد يكونون آخر ممثل حيّ لهذا الموروث الفريد.
والتركمان في سهل البقاع مازالوا يتحدثون التركية بلهجة مميزة تعرف لديهم باسم “أوباتشي”، ويعيشون في ست قرى هي دورس، والشحيمية، والنعنعية، وعدوس، والحديدية ومشاريع القاع، التي يبلغ عدد سكانها حوالي 10 آلاف نسمة.
ويتركز وجود التركمان القره قويونلو في لبنان في منطقة سهل البقاع (شرق)، فيما يبلغ عدد التركمان الموجودين في عموم المناطق اللبنانية بين 40 إلى 50 ألف نسمة.
وفي زيارة إلى قرى تركمان القره قويونلو في البقاع التقينا بعض السكان في حديث حول هذا التراث المهدد.
عمار كنجو (52 عاما)، أبٌ لـ7 أطفال من قرية الحديدية، يمثل أحد أفراد الجيل الأخير من منشدي الأغاني والأهازيج الشعبية التركية.
وقال كنجو إن “هذه الأغاني الشعبية سوف تظلّ بذاكرته، خاصة وأنه طالما سمع والده يغنيها”.
وأضاف “لطالما اعتدنا التحدث باللغة التركية باللهجة البقاعية، وذلك قبل انتشار اللغة العربية في القرى التركمانية (أوبا)”.
وقال “هنا بعض الأطفال يفهمون اللغة التركية، لكنهم لا يستطيعون التحدث بها، في الماضي لم يكن سكان الأوبا يعرفون اللغة العربية وكانت التركية البقاعية هي لغة التواصل الوحيدة بين السكان”.
وأشار كنجو إلى أن “بعض الفتيات اللاتي كنّ يتزوجن من القرى التركمانية في الماضي، كنّ يتعلمن أيضا التركية البقاعية مع مرور الوقت”.
أما عصرية غرلي (73 عاما)، من قرية دورس البقاعية، تعتبر هي الأُخرى من الجيل الأخير الذي تربّى على الأغاني الشعبية التركية في البقاع.
الخالة عصرية التي تعيش حياة متواضعة مع ابنتيها في منزلها خارج القرية، فقدت والدتها في سنّ مبكرة، قبل أن يتزوج والدها مرة أخرى. وذكرت أنها تعلمت جميع ما تحفظه من الأغاني الشعبية التركية من زوجة أبيها.
وبحسب غرلي، فإن أبناءها وأحفادها مازالوا يتحدثون التركية في ما بينهم، مشيرة إلى أن سكان الأوبا كانوا لا يعرفون الكثير من اللغة العربية، لكن عدد الناطقين بها زاد مع مرور الوقت.
وعندما سألناها عمّا إذا كان أحفادها يعرفون الأغاني الشعبية التركية، أجابت “أرى السعادة في عيونهم كلما بدأت بغناء الأغاني الشعبية بالتركية البقاعية”.
رافع رمضان (43 عاما) من قرية الشحيمية، قال “تعلمت الأغاني الشعبية التركية البقاعية من جدّي، حالفني الحظ برؤية الجيل الأخير الذي عاش على الأغاني الشعبية التركية”.
وتابع بلهجته التركية البقاعية المميزة “في المساء، يأتي الشباب إلى هنا، نجلس ونغنّي الأغاني الشعبية التي تعلمناها من آبائنا وأجدادنا، وبدأت بتعليم هذه الأغاني لأولادي”.
التراث الشفوي الفريد معرّض لخطر الاندثار اليوم، بالتزامن مع زيادة نسب التعليم داخل المجتمع والاندماج مع اللبنانيين العرب
ويشرح عالم التركيات وعضو الهيئة التدريسية في جامعة علاءالدين كيقباد التركية (ألانيا)، أوزغور قاسم أيدمير، أنه “لا يمكن الحديث عن لهجة تركمانية متجانسة في لبنان”.
وأضاف أن “اللهجات التركمانية في لبنان تحمل ميزات متنوعة وجذورا عميقة من مختلف اللهجات التركية”، مشيرا إلى أن “الوجود التركي الأقدم في لبنان موجود في سهل البقاع”.
وأفاد أيدمير أن “اللهجة التركية البقاعية في لبنان تحمل آثارا من اللهجة التركية القبجاقية، رغم أن التركمان الذين يعيشون في البقاع ومناطق لبنانية أخرى مثل قضاء عكار ومدينة طرابلس ينتمون إلى قبيلة الأوغوز”، أو “الغُزّ” كما تعرف في الأدبيات العربية.
وأوضح أن لهجة تركمان القره قويونلو في سهل البقاع مازالت تحتفظ بكلمات من التركية القبجاقية وكلمات تركية قديمة مذكورة في كتاب “ديوان لغات الترك”، وهو أول قاموس تركي عربي شامل وأطلس جغرافي أعده اللغوي التركي محمود الكاشغري في الفترة بين 1072 و1074 في بغداد.
وبحسب أيدمير، فإن “أولى التجمّعات السكنية التركية التي بدأت في القرن الثامن في لبنان، أقيمت في سهل البقاع، وأن الهجرات التركمانية الكبرى القادمة من الأناضول وصلت إلى المنطقة مع تراجع الغزو المغوليّ”.
وأوضح أن “الوجود التركي في لبنان بدأ بشكل متزامن مع انتشار الأتراك في الأناضول، والبيانات اللغوية للتركمان الذين يعيشون في عكار وطرابلس قيّمة للغاية أيضا وتشير إلى بيانات قديمة ونادرة في إطار الهوية الثقافية التركية”.