الأطراف الصناعية تسمح لحامليها أن يعيشوا حلمهم

بون (ألمانيا) – تجتاح أجهزة الإعلام اليوم حملة لمكافحة الاتجار بالأعضاء البشرية. هي حملة عززتها بقوة الحروب التي تعصف بدول في الشرق الأوسط وأفريقيا وآسيا، وحروب العصابات في دول أميركا اللاتينية وأميركا الوسطى.
وهنا يظهر التباين بين الغني والفقير بشكل سافر يبعث على الحزن، فالفقراء الهاربون من جحيم الحروب والمجاعات ليس عندهم ما يبيعونه سوى أعضاءهم. الفتيات الجميلات يبعن أجسادهن والرجال والشبان يبيعون أعضاءهم. تعرض في السوق كلى بشرية وقرنيات عيون وقلوب، وعظام مختلفة ومفاصل متنوعة. سوق من أجزاء احتياطية حقيقية، تروي قصصا مرعبة عن اليأس البشري وعن قدرة المال في نفس الوقت.
تمثل العصي والعكازات والمقاعد المتحركة أجزاء احتياطية ومساعدة طوّرها الإنسان منذ أزمنة قديمة لتساعد قدميه وساقيه على الحركة والمشي والركض، وربما كانت العصا من أشهرها فقد ورد ذكرها في القرآن الكريم “قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَىٰ غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَىٰ“، فعصا موسى باتت أشهر من نار على علم، ويمكن القول إنّ الآية الكريمة نفسها هي شهادة سماوية على أهمية الأجزاء الاحتياطية التي تُعين الإنسان عند تلف أحد أجزاء جسمه الأصلية.
الأجزاء المساعدة القديمة الأخرى مثل أربطة الساق والساعد والمعصم والقدم، التي يعود تاريخها إلى الحضارات القديمة التي كانت تُستعمل لشد هذه الأعضاء بقوة، خاصة لدى الرجال أثناء الصيد والقتال والرياضة.
وقد يندرج تحت وصف ما نحن فيه، ما عرف بحزام العفّة في العصور الوسطى، وهو حزام معدني، يمنطق به فرسـان الهيكل الذين يذهبون إلى الحروب الصليـبية فروج نسائهم، فلا يتيح لهن سوى قضاء حـاجات التبـول والتغـوط، ويمنعهن من مقاربة الرجال.
وانتشرت بعد الحرب العالمية الثانية خاصة صناعة الأجزاء الاحتياطية والصناعية من أذرع وأرجل وأقدام وعظام بديلة وعيون صناعية زجاجية. في البداية كانت تلك الأجزاء جامدة لا حراك فيها، ثم توالت التجارب لصناعة أجزاء متحركة، واستفاد الملايين من جرحى الحرب العالمية الثانية من أطراف صناعية يسّرت لهم الحياة اليومية، وجعلتها أمرا ممكنا.
بنوك الدم اليوم تخزن كميات كبيرة منه، ويتبرع لها أغلب الناس مجانا مقابل حق الحصول على دم مجاني عند حاجتهم
أسنان ذهبية وأخرى سامة
طوّرت البشرية أجزاء وأطرافا صناعية. ويرجع تاريخ أول تلك الأجزاء إلى العصر الفرعوني، حيث عرف الفراعنة الأسنان الذهبية التي جعلوها تيجانا لأسنان حقيقية مأخوذة من الموتى بدلا عن الأسنان التالفة، وفق ما كشفته لقى ومومياوات.
وعرفت البشرية أنواعا من أطقم الأسنان الاصطناعية، منها ما صنع من الخشب وأخرى من الفخار، بدءا من القرن السابع الميلادي، وصولا إلى رقائق بولي إثيلين سيتات المتداولة اليوم. وسبقها جيل من الأطقم كان يصنع من مواد بتروكيماوية احتوت على آثار سمية. وكان أطباء الأسنان ينصحون مرضاهم بضرورة نزع أطقم أسنانهم وحفظها في قدح ماء وملح طيلة الليل لأنّ ذلك “سيقضي على البكتيريا الضارة التي تنشأ حولها” على حد وصفهم، دون أن يُعلموا مستخدمي تلك الأطقم أنّ فيها آثارا سمية.
تمثل الأسنان الصناعية وملحقاتها اليوم منجزا طبيا تقنيا ينقذ المليارات من الناس الذين يفقدون أسنانهم بسبب إهمال تنظيفها، أو بسبب الحوادث، أو بسبب تقدم العمر، وهو أمر حتمي غالبا. ولولا هذا الاختراع بوسعنا أن نتخيل كم من الفتيات والشبان سيفقدون فرص زواج مشرف متكافئ لأنهم فقدوا أسنانهم في سن مبكرة بسبب الإهمال مثلا.
ولا يفوتنا أن نلحظ كيف سيُحرم أغلب الناس من هنيء الطعام ولذيذه لعدم امتلاكهم أسنانا، خصوصا أننا نعيش ثورة الشكولاتة والسكريات والمثلجات والعصائر عبر العالم، ما يفاقم مخاطر فقدان الإنسان لأسنانه في سن مبكرة.
شاعت ضمن عمليات بيع الأعضاء البشرية تجارة العيون، وعمليات بيع القرنية، وهي أجزاء حساسة ظلّت عصيّة على العلم وباتت اليوم عمليات زراعتها متداولة يمكن إنجازها في الكثير من مستشفيات دول العالم شرقا وغربا.
الأجزاء الصناعية الأخرى المرتبطة بالعيون هي النظارات الطبية، والنظارات الشمسية، التي تطوّرت اليوم إلى العدسات اللاصقة بأنواعها.
ومع تطور عدسات النظارات الطبية عبر العالم وتطور إطاراتها، سعى المختصون إلى تقريب قدرة عدسات النظارات من قدرات العين البشرية الحقيقية، وظهر ما يعرف بـ”ملتي فوكال” عدسات، وهي التي تؤمّن النظر من بعيد والنظر من قريب والقراءة واستخدام الكمبيوتر والهاتف الذكي وقيادة السيارة ومشاهدة التلفزيون، كلها في نظارة واحدة، وكل هذا جميل، لكنّ الأسعار ليست جميلة دائما، لأنّها تبدأ من خمسين دولارا للعدسة الواحدة، وصولا إلى 500 دولار.
|
وتعرض مواقع الإنترنت وخاصة الأميركية منها تشكيلات عدسات متنوعة كبيرة وبأسعار مغرية، لكن شراءها وتركيبها يحتاجان إلى مختصين وخبراء تكلّف أتعابهم مبالغ باهظة. العدسات الزجاجية هي الأرخص، والعدسات البلاستيكية بخدماتها الخاصة وطلائها العاكس للضوء، أو الزئبقي الملوّن هي الأغلى دائما، بسبب خفة وزنها وطول عمرها. وبقدر أكثر خطورة تطورت صناعة إطارات النظارات. وصارت الشركات تتبارى في قوة الإطار وخفة وزنه. وتستخدم لهذا الغرض معادن تيتانيوم وبيتا تيتانيوم ومونيل وبيريليوم. وترتبط الأسعار بنوع المعدن وشكل الإطار، فالأغلى دائما هي المستديرة المصنوعة من معادن التياتنيوم وبيتا تيتانيوم.
ولكن محلات صناعة النظارات تقدم عروضا مغرية، بانتساب سنوي أو دائم يدفعه المستخدم، كتأمين مستدام عن نظارته. وهكذا يضمن الزبون أنّ المحل سيصلح النظارات ويساعد في تطويرها ماليا. والحديث هنا يشمل نظارات طبية وشمسية قد تصل قيمتها إلى الآلاف من الدولارات.
لا ننسى هنا، أنّ الملايين من الناس يولدون بعاهات بصرية مبكرة تحتم عليهم استعمال النظارات وهم في الثالثة من عمرهم. وجعلت تقنيات صناعة النظارات الحديثة من قدرة الإبصار شبه الطبيعي أمرا ممكنا وبكلفة مقبولة. ولنتخيل لو أنّ هذه الخدمات لم تتطور بهذا المستوى، في ظل النمو السكاني البشري الاستثنائي الذي ميز القرن العشرين والألفية الثالثة، ما مصير الملايين من الناس المولودين بعاهات بصرية؟ وأي مأساة كانت تنتظرهم لولا العيون الاحتياطية وما يتعلق بها؟
الحروب خلقت سوق الأطراف
مجلة أوَيك الأميركية نصف الشهرية التي توقفت عن الصدور عام 2005، نشرت في عددها الصادر يوم 22 ديسمبر 1949، لائحة بالأجزاء الاحتياطية التي انتشرت محلات وعيادات تداولها في الولايات المتحدة وأوروبا بعد الحرب العالمية الثانية.
سلّط المقال الضوء في وقت مبكر على عمليات تبديل الأعضاء التالفة، كاشفا عما عرف بـ”مصرف العيون” والذي كانت تخزن فيه قرنيات العيون من بشر فارقوا الحياة، بعد أخذ موافقتهم أو موافقة ذويهم على نزع العيون لمنحها لمرضى.
كان هذا يجري ابتداء من عام 1945 بسبب مئات الآلاف من الجنود والمواطنين الذين فقدوا عيونهم في المعارك أو القصف الجوي الذي طال العواصم والمدن الأوروبية، أو بسبب كبر السن أو الأمراض ومنها التراخوما.
كما تطرق المقال إلى “فترينات العظام” التي انتشرت في نيويورك خاصة حيث كانت تحفظ فيها العظام والمفاصل والأضلاع وفقرات الظهر والرقبة في زجاجات مغلقة، حتى تأتي الحاجة لاستخدامها، وتطوّر الأمر إلى تخزين غضاريف الأنف والأذن والركبة وغيرها.
في مجال القلوب، نجح البروفيسور كريستيان بيرنارد في جنوب أفريقيا في إجراء أول عملية نقل قلب لمريضة عام 1967. نجحت العملية بشكل ساحق، لكن المريضة توفيت بعد 18 يوما، بسبب ضعف جهاز مناعتها وإصابتها بذات الرئة. وفي عام 1982، نجح روبرت يارفيك في صناعة أول قلب صناعي، وزرعه بنجاح للمريض بارني كلارك بعملية رعتها جامعة أوتاوا الأميركية. حمل القلب اسم جرافيك 7 على اسم صانعه. وهكذا حُرم العشاق من حلمهم الوردي بإهداء قلوبهم إلى حبيباتهم، فالقلب الصناعي يمكن إهداءه ونقله وتغيير حتى ألوانه.
ونبقى في جهاز الدوران وأجزائه، فخلال الحرب الكونية الأولى، وباشتداد الحاجة الماسة إلى الدم، لتعويض دماء النازفين في كل مكان، ظهرت فكرة بنوك الدم، وكان أولها قد أنشىء عام 1917، حيث شرع أطباء الجيش البريطاني بجمع الدم من صنف “أو” خاصة وإضافة محلول ستيرات الكلوكوز له لمنع تخثره، تحسبا لمعركة كمباري. بنوك الدم اليوم تخزن كميات كبيرة منه، ويتبرع لها أغلب الناس مجانا مقابل حق الحصول على دم مجاني عند حاجتهم أو أي من أهلهم وذويهم إلى دم فوري.
|
لكنّ العلماء طوروا بديلا بدائيا يمكن أن يعوض الجسد جزئيا وبشكل مؤقت عن فقدان الدم، وهو سائل قادر على حمل الأوكسجين خصوصا، ولفترة زمنية قصيرة، لتدارك المواقف المهلكة التي يفقد فيها جسم الإنسان الدم بشكل سريع، لكنّ السوائل المتداولة حتى الآن عاجزة عن تعويض الهيموغلوبين والبلازما، وتفلح في حمل الأوكسجين حسب ما ذكر مركز السرطان الأميركي.
أجزاء احتياطية ذات أثر جمالي
شهدت العقود الثلاثة الأخيرة قفزة في صناعة وسوق الأجزاء الاحتياطية التي تدعم أنوثة النساء، فالأهداب الساحرة التي تكبّر العين وتقربها من وصف “عيون المها” التي تاه بها الشعراء، والعدسات اللاصقة التي تُغير لون العين، والأظافر الطويلة الرقيقة التي تظهر رشاقة الأنامل، والشعر المستعار الصناعي، والشعر المستعار الحقيقي، كلها باتت بضائع رخيصة الثمن وتتداولها بنات المدارس والنساء كحاجات يومية بأبخس الأسعار. وليس ما بوسع المرء اليوم إلا التعجب لهذا التطور الذي جعل من هذه الأشياء وقائع متداولة بعد أن كانت قبل بضعة عقود مجرد أحلام تراود عقول النساء لا يملك أحد أن يأتي بها إلى أرض الواقع.
لكن الأخطر أنّ تطورات علمية كبيرة تجري منذ أربعة عقود مكّنت الناس من تغيير لون بشرتهم، وأشهر مثال على ذلك هو مايكل جاكسون الذي غيّر سحنته من السواد الأفريقي إلى البياض الأوروبي، وتتضارب الروايات عن ذلك، ففيما ينسب إلى مدير أعماله القول “إنّ البياض الذي غيّر لون بشرة مايكل جاكسون هو مرض البرص”، تشير تسريبات صحافية غير رسمية نشرتها صحف بريطانية وأميركية على مدى عقود، إلى أنّ مايكل أجرى عمليات قصر لون البشرة بمبلغ وصل إلى 20 مليون دولار، ونجح في تغيير لون بشرته، وتصغير شفتيه، وتسريح شعره.
واليوم تتبارى الممثلات والمطربات وعارضات الأزياء في استخدام مادة البوتوكس لتغيير ملامح وجوههن، لدرجة باتت النساء متشابهات.
وفي العالم العربي يتحدث الجميع عن هيفاء وهبي ونانسي عجرم وشيرين وآثار العمليات على وجوههن، فيما اشتهرت في الغرب الممثلة جيني ماكارثي التي نجح البوتوكس في إظهارها بعمر يصغر عمرها الحقيقي بثلاثة عقود، أما الممثلة لوري لوغلين فقد غير الحشو الاصطناعي تحت عينيها شكلهما إلى لوزتين جميلتين.
لكنّ الأمر تجاوز استخدام الأجزاء الاحتياطية في الوجه إلى توظيف أجزاء احتياطية في الجسم، وقد اختطفت المغنية نيكي ميناج الأضواء بكثرة عمليات السليكون التي أجريت على جسدها لدرجة أنّ قياسات الجسد باتت تثير تعليقات حول جمالها، وبذلك دخل السليكون والبوتوكس مجال صناعة وتطوير أجزاء الجسد البشري.
وإذا أردنا أن ننقل كل هذه الأجزاء إلى العصر الرقمي، وعالم السايبر، فإنّ الأجهزة الرقمية وبرمجياتها اليوم باتت أجزاء قد تحل محل العقل البشري، وليس بعيدا أن نرى توظيفا لأدمغة العلماء والناس خارقي الذكاء من خلال إعادة صنعها في العالم الرقمي ثلاثي الأبعاد بما يجعلها في متناول الجميع، بمعنى أنّ من يعاني من أزمة تتعلق برغبته في إنشاء بيت يقيم فيه فوق مساحة أرض صغيرة، ويبحث عن حلول، يمكن أن يزور المختبر الفلاني، ويدفع نحو 30 دولارا ثمنا لاستشارة “ذكية”، فتوضع معطياته في عقل ستيفن هوكينغ الإلكتروني، ويأتيه الجواب خلال ثوان، فيخرج ليطبّقه مستعينا بقدرة أذكى عقل تعرفه البشرية اليوم.
كاتب عراقي