الأسواق المالية لها القول الفصل في الاستفتاء البريطاني
تفرض متابعة مستجدات الاستفتاء البريطاني على البقاء في الاتحاد الأوروبي، مراقبة ردود فعل أسواق المال العالمية الكبرى، لأنها لا تعبر عن مواقف أيديولوجية أو عاطفية أو وطنية، بل تضع أموالها وفقا لما تقرأه بدراية عميقة لمحصلة العوامل المؤثرة على الأوضاع المالية.
وحين عبرت عن مخاوفها الكبيرة في الأسابيع الماضية، فإنها لم تعبر عن انفعالات، بل نقلت التريليونات من الدولارات من رهانات معينة إلى رهانات أخرى، وهو ما يؤكد أن مخاوف خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي كانت جدية ومقلقة بالفعل.
حين يخشى المستثمرون من المستقبل، تنخفض شهيتهم للمخاطرة فيبتعدون عن الأسهم والنفط والبعض من العملات مثل الدولار الأميركي، ويتجهون إلى الذهب والسندات المستقرة مثل الألمانية، إضافة إلى عملات الملاذ الآمن مثل الفرنك السويسري والين الياباني.
وشهدت أيام القلق من خروج بريطانيا نزوحا واسعا للأموال من بريطانيا، ما أدّى إلى انخفاض قيمة الجنيه الأسترليني وتراجع حاد في الأسهم البريطانية.
لذلك لا يمكن إغفال الارتفاع الكبير أمس في الجنيه الأسترليني والأسهم البريطانية والعالمية وارتفاع أسعار النفط والانخفاض الكبير في أسعار الذهب لأنها مؤشرات صريحة على انحسار مخاوف انفصال بريطانيا عن الاتحاد الأوروبي.
سبب القلق والارتياح يكمن في أن خروج بريطانيا من التكتل يمكن أن يوجه ضربة شديدة إلى الاقتصاد البريطاني، وضربة مماثلة إلى مستقبل بقاء الاتحاد الأوروبي، وقد يفجر أزمة اقتصادية عالمية كبرى.
ولم يسبق لاستفتاء محلي أن حظي بهذا الاهتمام العالمي، حيث تدفقت التحذيرات من جميع شركاء بريطانيا التجاريين والمؤسسات العالمية الكبرى لترسم سيناريوهات كارثية، تمكنت أخيرا من ترجيح كفة البقاء في الاتحاد، إضافة إلى عوامل داخلية أبرزها اغتيال النائبة جو كوكس، الذي أبعد الكثير من البريطانيين عن معسكر الخروج.
ويشبه السيناريو ما حدث في استفتاء استقلال أسكتلندا، الذي كان يحظى بتأييد قومي واسع، لكن الأوساط الاقتصادية والمالية توحدت وبثت الرعب في أوساط الأسكتلنديين من سيناريوهات الاستقلال الكارثية.
يؤكد ذلك أن أسواق المال هي التي تملك القول الفصل، لأنها تمثل خلاصة المصالح الاقتصادية وتملك الموارد التي يمكن أن تدعم دفاعها عن مصالحها. ومن المرجح أن تتصاعد تحذيراتها في الساعات الأخيرة. وهي لن تتورّع عن تصوير أن الشمس لن تشرق على بريطانيا إذا خرجت من الاتحاد الأوروبي.
ذخيرة الجهات الرافضة للخروج أكبر من كل الأرقام التي يمكن عرضها على الناخبين البريطانيين، ويكفي أن نشير إلى أن أكثر من 70 بالمئة من التبادل التجاري للمملكة المتحدة يتمّ مع شركائها في الاتحاد الأوروبي.
كما أن المركز المالي في لندن وهو أكبر مركز مالي في العالم، ويساهم بحصة كبيرة من الناتج المحلي البريطاني، يمكن أن يتعرض لزلزال كبير إذا نقلت المؤسسات الكبرى مقراتها من لندن إلى المركز المنافسة في أوروبا مثل باريس ولوكسمبورغ وفرانكفورت.
كل ذلك وحد الماكنة الاقتصادية والمالية لمنع ذلك الخروج، لأنها لا تقامر بمواقف وأدوار سياسية بل بمستقل تريليونات الدولارات.
وبغض النظر عن حملات التخويف، فإن خروج بريطانيا لم يكن ممكنا في أي وقت من الأوقات، بسبب الجبهة الهائلة من القوى السياسية والاقتصادية والمالية المسلحة بالحقائق والأرقام، في مواجهة أصوات من الهامشيين والغاضبين والانطوائيين، الذي يحلمون بالوقوف في وجه عجلة التاريخ.
التحول الأخير في استطلاعات الرأي يؤكد تلك الحقيقة، ويعلن نجاح الجبهة المالية في فرض إرادتها، وهي التي تملك الموارد وتهيمن على وسائل الإعلام من تلفزيونات وصحف ومجلات وفضاءات إلكترونية.
ويؤكد أن تلك الجهة العريضة المسلحة بالأموال هي من تقرر نتيجة الاستفتاء لحماية المصالح الاقتصادية العميقة، وأنها تمكنت أخيرا من إيصال رسالتها إلى الرعية القاصرة بأنها لا يمكن أن تعرقل عجلة التاريخ. كل ذلك يجعل إمكانية التصويت للخروج من الاتحاد الأوروبي من المستحيلات.