الأزمات تكتب الروايات

خلال هذه السنوات التي يشهد فيها العالم الرأسمالي أزمات اقتصادية خانقة، تسببت في بروز أحزاب يمينية متطرفة، تستعيد الدول كما الشعوب ذكرى الأزمة الاقتصادية الخانقة التي شهدتها البلدان الرأسمالية الغنية عام 1929، والتي كانت لها انعكاسات سلبية لا على شعوب تلك البلدان وحدها، بل على شعوب العالم برمته.
وإذا ما كانت تلك الأزمة مُدمّرة على المستوى الاقتصادي والمالي والسياسي، فإنها كانت مفيدة وناجعة على المستوى الأدبي، إذ أنها أبرزت مواهب كبيرة في مجال الرواية الأميركية بالخصوص، لتكون تلك السنوات السوداء التي سبقت الحرب الكونية الثانية “العصر الذهبي للرواية الأميركية” متجسدة بالخصوص في أعمال كل من جون شتاينباك، وأرسكين كالدويل، وجون دوس باسوس.
ففي روايته “عناقيد الغضب”، يتطرق جون شتاينباك إلى الأزمة المذكورة من خلال عائلة من المزارعين تقيم في مقاطعة أوكلاهوما بعيدا عن “وال ستريت” حيث حدث الزلزال المالي المدمر.
وبسبب الإجراءات المجحفة التي سلطتها البنوك عليها، تضطر تلك العائلة التي باتت تواجه الجوع إلى ترك مزرعتها متوجهة إلى كاليفورنيا آملة أن تجد فيها الخلاص من محنتها. وبرفقة فتاة حامل، وكاهن مجرد من عمله، وطفلين يعانيان من الجوع طوال الوقت، يبدأ رب العائلة المدعو طوني جواد، الخارج للتو من السجن، رحلة طويلة تعيش خلالها العائلة صنوفا من العذاب والأوجاع والمحن. ففي الطريق يشاهد أفرادها عائلات مشردة، وأطفالا يبكون من الجوع، وأمهات مُعَفّرات الوجوه والثياب بغبار السفر الشاق، وأناسا يحرقون مزارع البرتقال، ويصرخون في الحقول لاعنين البنوك، و”وال ستريت”، والرأسماليين الجشعين، وموظفي البيت الأبيض الذين يتقنون صناعة الوعود الكاذبة. وقد تمكن شتاينباك من أن يجعل من عائلة جواد رمزا لضحايا الأزمات الاقتصادية لا في الولايات المتحدة الأمريكية وحدها، وإنما في جميع أنحاء العالم.
وكان أرسكين كالدويل قد مارس مهنا عدة، منها الصحافة قبل أن ينصرف إلى كتابة الرواية. وعندما انفجرت الأزمة الكبرى، انشغل بها ليكتب رائعته “طريق التبغ” التي حققت له شهرة عالمية واسعة. وهو يقول إن فكرة هذه الرواية التي لا تزال إلى حد اليوم واحدة من أروع الروايات الأميركية، ولدت في ذهنه في “وقدة الصيف الشاوية” في مقاطعة جورجيا. وكان هو يسير في طريق “مُغبرة، ثلّمتها عجلات العربات، ونبتت على حواشيها الأعشاب البرية، وكانت الأرض موحشة”.
ربما لهذا السبب بدأ كالدويل روايته المذكورة على النحو التالي: “كان لوف بنسي يتخذ سبيله متثاقل الخطى إلى المنزل، عبر طريق التبغ المغطاة بالرمل الأبيض العميق، وعليها أخاديد حفرتها الأمطار، وقد حمل على ظهره كيسا من لفت الشتاء”.
وفي روايته، رسم كالدويل صورة مرعبة عن الناس الجائعين الملتفين بالأسمال البالية. وهم مشردون في الحقول وفي الطرق لا يدرون لهم وجهة في الحر كما في البرد. وهم في بحث دائم عن الطعام حتى أنهم أصبحوا يظنون أن العالم أقفر من الخبز ومن الرحمة، وأن الأرض تحولت إلى صحراء ليس عليها سوى الأشواك والصخور، وعليها تخيم وحشة مستديمة.
وفي روايته التي حملت عنوان “الثروة” التي لاقت نجاحا هائلا، حاول جون دوس باسوس أن يبرز الأخطاء والممارسات السياسية والمالية والاقتصادية والاجتماعية التي أدّت إلى تلك الأزمة الخانقة. كما سعى إلى أن يبيّن أن تدهور القيم الأخلاقية في عالم أصبح يسيطر عليه الجشعون للمال والثروة كان سببا أساسيّا هو أيضا في انهيار الاقتصاد الرأسمالي.
صدرت الرواية عام 1936، وفي البداية يركّز باسوس على تصوير “السنوات السعيدة” التي عاشتها الولايات المتحدة الأميركية في العشرينات من القرن الماضي. لكن عقب مرور عام فقط على ذلك الخطاب المفعم بالتفاؤل، والثقة في المستقبل، انهار الاقتصاد العالمي والأميركي، وأضحت المدن التي كانت زاهية بالأمس القريب، كئيبة، وموحشة تعجّ بالعاطلين عن العمل واليائسين والمتسولين والجوعى والفاقدين لأيّ بصيص من الأمل.
وقد تمكّن باسوس من أن يضع إصبعه على الجرح العميق، وأن يحلّل بأسلوبه الروائي الرفيع الأوضاع التي أفضت إلى أزمة 1929. وفي روايته هو يدين بشدّة الباحثين عن الثروات السهلة، وتجّار الكحول السريين وعصابات الجريمة المنظمة وأصحاب رؤوس الأموال الكبيرة الباحثين عن الربح السريع. أما مصير الإنسانية فلا يعني لهم شيئا يذكر.
وفي روايته يشنّ باسوس هجوما عنيفا على هؤلاء الذين سمّاهم “الأثرياء الجدد” مثل تايلور، مبتكر الطريقة العلمية المثلى في العمل لـ”مقاومة الكسل” بحسب تعبيره، وهنري فورد الذي حصل على ثروة طائلة اعتمادا على الأفكار المسبقة لوالدته التي احتفظ بها مثلما “يحتفظ بالأوراق المالية الجديدة داخل خزانة”. ولم ينس الروائي أن يوجّه نقدا لاذعا للمؤسسات الإعلامية المتعاطفة مع أصحاب رؤوس الأموال الكبيرة، وأيضا إلى أولئك الذين حكموا بالإعدام على نيكولا ساكو، وبارتولوميو فانزاتي، العاملين الإيطاليين المهاجرين اللذين لم يقترفا أي جريمة سوى أنهما كانا يريدان أن يتمتعا بحياة كريمة في بلاد “الثروة الكبيرة”.