الأرقام الاقتصادية القادمة من السعودية تثير التكهنات

الرياض – تثير الأخبار الاقتصادية الآتية من السعودية الكثير من التكهنات في ضوء تراجع أسعار النفط وعدم توفيرها العائدات الكافية التي كانت الرياض تراهن عليها لتنفيذ المشاريع الكبرى المقررة ضمن رؤية 2030، وبدا ذلك من خلال أرقام العجز في الميزانية.
ويتزامن هذا مع ارتباك إستراتيجية السعودية الخاصة بخفض الإنتاج النفطي من أجل الحفاظ على سقف عال للأسعار، والمؤشرات على تململ أوبك وأوبك+ من هذه الإستراتيجية التي لم تراع واقع السوق وحاجة الدول المنتجة إلى ضخ المزيد من الكميات لتحصيل عائدات أكبر، ما يجعل من الصعب التنبؤ بالخطط النفطية للمملكة.
وظهرت أولى نتائج هذا الارتباك من خلال الإعلان عن عجز في الميزانية، وانعكاس ذلك بشكل مباشر على تنفيذ المشاريع العملاقة وبروز مخاوف جدية من إمكانية ألّا تسير الأمور كما خطط لها ولي العهد الأمير محمد بن سلمان حين وضع خطط ومشاريع رؤية 2030.
الرياض توصلت إلى استنتاج يفيد بأن المزيد من الاستثمارات في حقول نفط جديدة لن تكون له أيّ جدوى اقتصادية
وقالت صحيفة وول ستريت جورنال الأميركية الثلاثاء إن السعودية ماضية في خططها الطموحة لتطوير اقتصادها لكنها تواجه “ضغوطا” مالية مع تراجع حجم الأموال لدى صندوق الاستثمارات العامة (صندوق الثروة السيادي للمملكة)، وتراجع أسعار النفط بما لا يلبي طموحات المملكة.
وتحت عنوان “مشروعات عملاقة في الصحراء تستنزف أموال السعودية” أشارت الصحيفة إلى أن المبالغ المالية الهائلة التي أنفقتها السعودية طوال العام الماضي أصبحت “مكلفة”.
وقالت إن صندوق الثروة السيادي قال في الشهر الماضي إن مستوياته النقدية، اعتبارا من سبتمبر، انخفضت بنحو ثلاثة أرباع، إلى حوالي 15 مليار دولار، وهو أدنى مستوى منذ ديسمبر 2020.
وللحفاظ على التدفقات المالية لجأت المملكة إلى “أداة تجنبتها في العقود الأخيرة، وهي الاقتراض”، وتخطط أيضا لبيع أسهم في شركة النفط العملاقة أرامكو.
وسجلت السعودية عجزا ماليا بلغ 80.9 مليار ريال (21.57 مليار دولار) في 2023 بعد أن سجلت فائضا بنحو 30 مليار دولار في 2022 مع ارتفاع أسعار الخام، لكن الخفض المتعاقب في الإنتاج خلال معظم فترات العام الماضي والعودة إلى أسعار أقل تسببا في بطء حاد في النمو وأعادا الميزانية إلى تسجيل عجز.
ومثلما كان متوقعا لم يتحرك تحالف أوبك+ لمواجهة انخفاض سعر خام برنت إلى ما دون 80 دولارا للبرميل. وكبار الكارتل، وأساسا السعودية، لا ينوون التحرك من أجل الاستمرار في إستراتيجية خفض الإنتاج التي اتُّبِعت في السنتين الماضيتين، والتي كانت تضغط المملكة على شركائها للالتزام بها.
وما كان مفاجئا هو أن الرياض أعلنت يوم 30 يناير الماضي إلغاء خطة زيادة الطاقة الإنتاجية بمقدار مليون برميل يوميا إلى 13 مليون برميل يوميا بحلول 2027، وهو ما يظهر أن الخطط النفطية السعودية تتحدى التنبؤات، ويمكن أن تتغير أو يتم تعديلها على ضوء التطورات.
ولم يصدر أي بيان رسمي سعودي يفسر أسباب إلغاء الخطة. لكن يبدو أن الرياض فهمت أنه من غير المنطقي أن تضخ إنفاقا رأسماليا كبيرا يهدف إلى زيادة الطاقة الإنتاجية بينما لا يتجاوز سعر النفط المستوى الذي يضمن التوازن لميزانية المملكة رغم خفض إنتاجها إلى 75 في المئة فقط من الطاقة الحالية البالغة 12 مليون برميل في اليوم.
وفي تعليقه على هذه الخطوة قال وزير الطاقة السعودي الأمير عبدالعزيز بن سلمان في المؤتمر الدولي لتكنولوجيا البترول قبل أسبوع في الظهران “أعتقد أننا أجلنا هذا الاستثمار لأننا ببساطة نشهد تحولا”، لافتا إلى أن “المملكة لديها الكثير من الطاقة الفائضة لدعم سوق النفط”.
ويرجح الكاتب أليستر نيوتن، في تقرير لمؤسسة “عرب دايجست”، أن يكون صناع القرار في السعودية قد وضعوا في اعتبارهم توقعات زيادة الطاقة الفائضة الحالية البالغة 3 ملايين برميل يوميّا في المستقبل القريب بمقدار مليون برميل في اليوم مع انتقال المملكة إلى توليد الطاقة التي تعمل بالغاز.
وتتوافق ضغوط الميزانية المحتملة مع تقارير تفيد بأن الرياض تمهد للمزيد من عمليات بيع أسهم شركة أرامكو.
ومن المتوقع أن يتم تأجيل هذه الخطوة إلى ما بعد إصدار الشركة تقريرا عن نتائجها المالية لسنة 2023، وأن تشمل المراجعة تقليصا كبيرا للنفقات الرأسمالية، بما قد يعزز سعر السهم.
وأقرّ المحللان مها الدهان ويوسف سابا في تصريحات لرويترز بأن الرياض توصلت إلى استنتاج مفاده أن طاقتها الهائلة غير المستغلة حاليا كافية لتزويد الأسواق في حالة نشوب أزمة، وأن المزيد من الاستثمارات في حقول جديدة لن تكون له أي جدوى اقتصادية.
وذكرت بلومبيرغ أن الهدف من البيع هو جمع مبلغ “متواضع نسبيا” قدره 10 مليارات دولار (مقارنة بالـ25.6 مليار دولار التي أمكن جمعها خلال الاكتتاب العام الأولي في 2019). لكن التعامل مع هذه التكهنات يجب أن يتوخى الحذر كما برز من عدم طرح أسهم ثانوية تصل قيمتها إلى 50 مليار دولار في نهاية 2023، بعد الإبلاغ عنها لأول مرة في صحيفة وول ستريت جورنال في سبتمبر الماضي. وقد لا تكون مخاوف الميزانية قصيرة الأجل العامل الوحيد الذي يلعب دورا.
وفي تقرير نشرته وكالة رويترز أكد مصدر لم يكشف عن هويته أن القرار كان مجرد “تأجيل”، وأنه لا يعدّ انعكاسا لإعادة تقييم الرياض للطلب على المدى الطويل. لكن التوقيت قد يدل على أن محادثات مؤتمر الأمم المتحدة للمناخ (كوب 28) بشأن التخلص التدريجي من الهيدروكربونات كانت أكثر صرامة مما أراده السعوديون أو توقعوه.
وقد تكون هذه النتيجة مجرد “بداية النهاية” لعصر الوقود الأحفوري، على حد تعبير الأمين التنفيذي لاتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ، سيمون ستيل. لكنها قد تكون أيضا مراجعة واقعية للرياض.
وكتب المحلل الاقتصادي كريس غايلز في مقال نشرته صحيفة فايننشال تايمز في 21 ديسمبر أن “التعهد في كوب 28 بالانتقال بعيدا عن الوقود الأحفوري مهم. ولكن لا ينبغي أن نخدع أنفسنا بتوقّع أنه سيغير الكثير من الأمور. كان من الممكن الاتفاق على الصياغة الأدق لأن الانتقال يحدث بالفعل. تبقى ذروة النفط في الأفق ولا يستطيع أوبك+ فعل الكثير حيال ذلك”.
وقد يصبح القرار دائما حتى لو كان تأجيلا في البداية، خاصة إذا استمر انخفاض حصة أوبك+ في السوق، وهو أمر يتوقعه العديد من الخبراء. وقال أليستر سايم من سيتي غروب لصحيفة فايننشال تايمز إثر إعلان الرياض مباشرة إن هذا سيشكّل “إعادة تفكير بشكل جذري في سياسة أوبك+ النفطية”.