الأردن: كيان قديم بحدود حديثة أم دولة حديثة بجذور عميقة

عندما وقف ميشع ملك مؤاب على أسوار ديبون، لم يكن يتحدث عن حلم، بل عن حقيقة محفورة في الحجر: “أنا ميشع، ملك مؤاب… أنقذت أرضي من قبضة إسرائيل، وأعدت بناء مدينتي.” هذا ليس مجرد نقش أثري، بل وثيقة تاريخية تشهد أن هذه الأرض لم تكن فراغًا سياسيًا، ولم تُترك بلا هوية تنتظر من يرسمها لاحقًا على خرائط القوى الكبرى.
منذ آلاف السنين لم تكن هناك دولة تُسمى إسرائيل أو يهوذا، بل كانت هناك عمّون ومؤاب وأدوم -ممالك مترابطة جغرافيًا ومتماسكة سياسيًا ومستقلة عن أي سلطة. واليوم، حين يحاول البعض اختزال الأردن إلى مجرد كيان جغرافي نشأ في القرن العشرين، فإن استحضار هذا التاريخ ليس ترفًا فكريًا، بل ضرورة لهدم الأساطير السياسية التي تحاول طمس حقائق استمرت لقرون.
إن حدود الأردن لم تُرسم في مكاتب الساسة، بل حفرتها الجغرافيا وسقتها الدماء وثبّتها التاريخ قبل أن تدرك الإمبراطوريات الحديثة كيف تعيد تشكيل الخرائط. حين ننظر إلى خارطة الأردن اليوم نجد أن حدوده ليست وليدة الاستعمار كما يدّعي البعض، بل هي امتداد لخرائط كانت قائمة قبل آلاف السنين.
امتدت مملكة عمّون من عمان الحالية شمالًا حتى البلقاء، حيث قامت عاصمتها ربة عمّون، التي لم تتغير كثيرًا عن عمّان اليوم. في حدودها الجنوبية تمركزت مؤاب جنوب البحر الميت، من مادبا إلى الكرك الحسا، وكانت ديبون (ذيبان حاليًا) مركزها السياسي. أما مملكة أدوم فحكمت جبال الشراه، والبتراء التي ظلت قلبها النابض. هذه لم تكن مجرد تجمعات سكانية، بل ممالك بحدود واضحة، كان الشرق فيها صحراءً تشكل حاجزًا طبيعيًا، بينما كان الغرب جبالًا ووديانًا تربطها بشبكة طرق تمتد شمالًا إلى بلاد الشام وجنوبًا إلى الجزيرة العربية.
لم تكن هذه الممالك وحدات معزولة، بل تكاملت فيما بينها سياسيًا واقتصاديًا، وبقيت متماسكة رغم تعاقب الإمبراطوريات. والأهم من ذلك أنها لم تكن مجرد كيانات عابرة، بل أسست لحدود بقيت حتى يومنا هذا وكأن الجغرافيا قررت مصير الدولة قبل أن تُصاغ سياساتها الحديثة.
يخطئ من يظن أن هذه الممالك كانت هامشية أو بلا هوية سياسية واضحة. الأدلة الأثرية والمدونات التاريخية تؤكد أنها كانت موجودة قبل ظهور مملكتي إسرائيل ويهوذا، بل وكانت هذه الأخيرة تحاول اختراق حدودها دون جدوى.
نقش ميشع، الذي يعود إلى القرن التاسع قبل الميلاد، يوثق كيف استعادت مؤاب استقلالها من الاحتلال الإسرائيلي، ما يعني أنها كانت دولة قائمة ذات سيادة قبل أن تحاول إسرائيل فرض نفسها على المشهد السياسي. حتى المدونات العبرية القديمة تُشير إلى أن بني إسرائيل، عند خروجهم من مصر، طلبوا الإذن بالمرور عبر أراضي مؤاب وأدوم.
◙ حين يحاول البعض تصوير الأردن كدولة حديثة، فإن الجغرافيا والتاريخ يردان بحسم: هذه الأرض لم تكن يومًا كيانًا طارئًا، ولم تُرسم حدودها في مكاتب السياسيين
بينما كانت الممالك الإسرائيلية تحاول تثبيت نفسها سياسيًا، كانت عمّون ومؤاب وأدوم قائمة بحدود واضحة وجيوش تحميها، وكانت تمتلك بنية إدارية وتنظيمية أثبتت استمراريتها لعقود طويلة. ولعبت الصحراء الأردنية دورًا مزدوجًا: فمن ناحية شكلت درعًا طبيعيًا جعل من الصعب على أي قوة غريبة اختراق المنطقة، ومن ناحية أخرى كانت شريانًا اقتصاديًا يربط الممالك الأردنية بتجارة البخور والتوابل التي كانت تمر عبر الجزيرة العربية وصولًا إلى البحر المتوسط.
القبائل البدوية التي سكنت هذه المناطق لم تكن عناصر معزولة، بل كانت جزءًا من النظام السياسي والاقتصادي للممالك. كانت توفر الحماية للقوافل التجارية، وكانت تشكل جيوشًا مساندة لعمّون ومؤاب وأدوم في صراعاتها مع القوى المجاورة أمثال الآشوريين والمصريين ومملكة إسرائيل.
واللافت أن هذه القبائل لا تزال موجودة حتى اليوم في شمال الأردن وشرقه، محتفظة بعاداتها ولهجتها وجذورها التاريخية، ما يعكس استمرارية ديموغرافية تثبت أن سكان هذه الأرض لم يتغيروا، بل استمروا في امتداد طبيعي عبر الزمن.
في شمال الأردن لم تكن الحدود حاجزًا جامدًا، بل كانت ساحة تفاعل بين مملكة عمّون والقبائل الآرامية. الدليل الأثري يُظهر أن اللغة الآرامية كانت تُستخدم في بعض نقوش عمّون، وهو ما يدل على تداخل ثقافي واضح. التجارة بين عمّون والقبائل الآرامية لم تكن مجرد عمليات بيع وشراء، بل كانت تبادلًا ثقافيًا ساهم في ترسيخ روابط امتدت لقرون. واليوم لا تزال بعض العائلات في شمال الأردن تحمل أصولًا تُرجعها إلى تلك الحقبة، في استمرار واضح لخطوط التفاعل التاريخي بين هذه الشعوب.
حين واجهت ممالك الأردن القديمة تهديدات خارجية لم تقف منفردة، بل أدركت أن قوتها في تحالفاتها. عندما حاول الإسرائيليون التوسع شرقًا وجدوا أنفسهم أمام جبهة موحدة من عمّون ومؤاب وأدوم. واليوم لا يزال الأردن يلعب هذا الدور نفسه: دولة محورية في معادلة التوازن الإقليمي، ليست مجرد كيان حديث، بل وريث طبيعي لممالك حكمت هذه الأرض وحافظت عليها في وجه القوى الخارجية.
حين يحاول البعض تصوير الأردن كدولة حديثة، فإن الجغرافيا والتاريخ يردان بحسم: هذه الأرض لم تكن يومًا كيانًا طارئًا، ولم تُرسم حدودها في مكاتب السياسيين، بل رسمتها الطبيعة وثبّتها الحجر وسقتها الدماء. الأردن اليوم ليس نتاج ترتيبات القرن العشرين، بل امتداد طبيعي لممالك صمدت رغم كل التغيرات السياسية. ومثلما دافعت عمّون ومؤاب وأدوم عن نفسها عبر العصور، لا يزال الأردن يحافظ على سيادته بنفس القوة.
التاريخ لا يُمحى، والجغرافيا لا تكذب. هذه الأرض، بكل ما فيها، كانت دائمًا موجودة، وستبقى كذلك… مهما حاول المهاجمون للأردن وكيانه من دول الجوار طمس تاريخ يتجاوز تاريخهم بعقود.
والمفارقة التاريخية أن الحدود السياسية للأردن لم تُرسم بإرادة اتفاقيات سايكس – بيكو وغيرها، بل فرضها التاريخ والجغرافيا معًا. فحدوده اليوم هي امتداد طبيعي لمعالم جغرافية واضحة: من الغرب، البحر الميت ووادي الأردن كحدود طبيعية لمملكة عمّون، ومن الشرق الصحراء التي شكلت حاجزًا طبيعيًا للممالك الأردنية، ومن الشمال تداخلها مع القبائل الآرامية، وفي الجنوب جبال معان والبتراء التي كانت حدودًا لمملكة أدوم، ومن الجنوب أيضًا مملكة مؤاب التي امتدت حتى البحر الميت. الأردنيون اليوم، مثل أسلافهم، حافظوا على هذه السيادة عبر العصور.