الأدب عبر أشكال جديدة.. الرواية التفاعلية تغير أنماط الكتابة والتلقي والنقد

الأدب الرقمي العربي يعيش أزمة وجود حادة تؤرقه وأسئلة قلق تزعجه، لأن النص العربي غير متوقع له إزاحة النص الورقي رغم تقلصه بشكل متسارع.
الأحد 2018/09/30
مع التكنولوجيا الحديثة دخلت الكتابة الأدبية في طور جديد ومغامرات جديدة

مثلما تغيّرت الوسائط التي كنّا نُعدها منذ عقود من مُقدسات التلقّي؛ فلم يعد الكتاب بصورته الورقية هو الوسيط الأوحد والأفضل للمعرفة أو القراءة بل أضحت الوسائط الإلكترونية هي الأكثر انتشارا خصوصا بين الفئات العمرية الأصغر سنا.

تغيّرت أيضا أنماط الكتابة ولم تعد الكتابة الورقية هي اللاعب الرئيسي على الساحة الأدبية؛ فثمة أنماط فرضتها الوسائط الحديثة على الأدب مُستفيدة مما تتيحه من مميزات وتقنيات لم تكن موجودة من قبل، ومن ثم ظهر الأدب الرقمي التفاعلي فارضا نفسه على الساحة الأدبية وواضعا شروطا جديدة لكتابته وتلقيه وحتى في التعاطي النقدي معه.

في الفترة الأخيرة، برزت العديد من الكتابات تحت مسمى “الأدب الرقمي” اتخذت من الإنترنت وسيطا للنشر كبديل عن الكتاب في شكله الورقي المعتاد، مستفيدة مما تتيحه شبكة الإنترنت من مميزات. بعض من هذه الكتابات استفاد من التفاعلية التي يُتيحها التواصل مع الجمهور أثناء كتابة العمل فصلا بفصل، بل إن بعض الكتّاب اعتمد على آراء القراء واقتراحاتهم لإكمال أحداث العمل الروائي الذي شهدوا ميلاده وتتبعوا سير أحداثه وتطورها.

وصفي عباس: المحتوى الرقمي في أزمة
وصفي عباس: المحتوى الرقمي في أزمة

ثمة قارئ جديد هنا فرضه هذا النوع من الكتابة الرقمية التفاعلية، قارئ لم يعد يقنع بكونه متلقيا سلبيا يستقبل ما يُقدِّمه إليه الكاتب ويقبل به بل هو في ظل هذا النمط من التفاعل يكون مشاركا في صنع الأحداث وتوجيه مسار الشخصيات والتحكم في تحولاتها، وعلى الكاتب أن يستفيد من ملاحظات القراء في صنع عمله الروائي. ليس فقط نمطا الكتابة والتلقي هما اللذان اختلفا ولكن النقد أيضا بات مُطالبا بأن يكتسب أدوات جديدة تُمكِّنه من فهم ما يدور على هذا الصعيد وما يخرج من هذه الآلة بعيدا عن الأدوات التقليدية للنقد التي لم تعد صالحة وحدها لتقديم قراءة واعية ومستوعبة لهذا التطور الرقمي.

الإرث الورقي

الناقد والأكاديمي وصفي عباس في كتابه المنشور رقميا بعنوان “الأدب بين الآلة والإحساس.. قراءة في الأدب العربي الرقمي” يقول “يعيش الأدب الرقمي العربي أزمة وجود حادة تؤرقه وأسئلة قلق تزعجه، لأن النص العربي غير متوقع له، على الأقل حاليا في ظل تردي الواقع العربي، إزاحة النص الورقي رغم تقلصه بشكل متسارع. فالإبداع الرقمي مازال حذرا حتى لا يصطدم باشتراطات التلقي. ولم ينضج بدرجة تجذب كبار المبدعين والنقاد، لأسباب واضحة ومقبولة نسبيا، حيث عدم تراكم النصوص الرقمية والأمية الإلكترونية وصعوبة التخلص من الالتصاق الحميمي بالإرث الورقي وعدم وضوح الرؤية النقدية للأدب الرقمي”.

ويشير عباس في كتابه إلى أن أزمة الأدب الرقمي في الوقت الراهن لا يتحملها المبدعون وحدهم أو النقاد وحدهم؛ فكثير من النقاد العرب ما زالوا ينتظرون ما ستسفر عنه التجربة من كتابات راسخة، لكنه يلفت إلى أن ثمة تمردا إبداعيا وتجديدا نقديا على الساحة الأدبية خصوصا مع التغير في تركيبة عناصر الكتابة الإبداعية لتتحول من (المبدع، النص، المتلقي) إلى (المبدع، النص، الآلة، المتلقي) وهو ما يفرض على المبدع والمتلقي مهارات خاصة وجديدة لمجاراة هذا النمط الأدبي الجديد.

محمد سناجلة: معضلة هذا الأدب في جدته
محمد سناجلة: معضلة هذا الأدب في جدته

فوضى المصطلحات

الروائي الأردني محمد سناجلة، رئيس اتحاد كتاب الإنترنت العرب ورائد الأدب الرقمي العربي، يوضح أن ثمة معضلة تواجه الفكر الرقمي العربي بل والعالمي وهو عدم وجود تعريف محدد له وهذا نابع من كون هذا الأدب ما زال جديدا في العالم كله وليس في عالمنا العربي فقط، فلا فرق بين الأدب الرقمي والتفاعلي لأن صفة التفاعل هي جزء أساس في الأدب الرقمي، والخلط جاء بسبب فوضى المصطلحات لهذا المولود الجديد، حيث قام العديد من الكتاب والنقاد العرب بالخلط في الترجمة والتعبير عن نفس المفهوم.

ينوه سناجلة بأن ثمة تغيُرات يفرضها هذا النمط الجديد من الكتابة؛ فالتغير الأساسي هو تغير لغوي، بل التحدي الأساسي هو تحدّ لغوي؛ ذلك أن الكاتب في الزمن الورقي كانت الكلمات هي أداته الرئيسية، فاللغة عنده مكونة من كلمات فقط يحدّدها معجم لغوي هو محدود بالضرورة، في الأدب الرقمي الأمر مختلف فالكلمة ليس سوى جزء من كل، فبالإضافة إلى الكلمات يجب أنْ نكتب بالصورة والصوت والمشهد السينمائي والحركة. فلم يعد كافيا أنْ يمسك الرّوائي بقلمه ليخط الكلمات على الورق، وعلى الكاتب الرقمي أنْ يكون شموليا بكل معنى الكلمة، لكن عليه أنْ يكون مبرمجا أولا، وعلى إلمام واسع بالكمبيوتر ولغة البرمجة، عليـه أنْ يتقـن لغـة الـ (HTML) على أقل تقدير، كما عليه أنْ يعرف فنّ الإخراج السينمائي، وفنّ كتابة السيناريو والمسرح وفن الـ(Animation).

عبد الواحد استيتو: الابتعاد عن الإطناب البلاغي
عبد الواحد استيتو: الابتعاد عن الإطناب البلاغي

ويرى سناجلة أن ثمة تحولا في الاستقبال النقدي للأدب الرقمي؛ فبينما كان الرفض شاملا في بداية الألفية، اختلفت الصورة في السنوات الأخيرة بل تغيرت بالكامل، حيث نجد أن الأدب الرقمي يدرس الآن في عدد كبير من الجامعات العربية، وهناك عدد مميز من رسائل الماجستير والدكتوراه عن الأدب الرقمي، وحدث تحوّل كبير في استقبال النقاد لهذا الأدب الجديد، بل يمكن القول إن الأدب الرقمي صار موضة جديدة للنقاد والمفكرين العرب وأيضا الكثير من الأدعياء الذين يحاولون ركوب الموجة.

عناصر الكتابة

يؤمن الكاتب المغربي عبدالواحد استيتو، صاحب الرواية الفيسبوكية التفاعلية “على بعد مليمتر واحد”، بأن الكتابة التفاعلية تقتضي الاهتمام ببعض العناصر في الكتابة لضمان استمرار متابعة القراء وتفاعلهم مع النص، ويأتي على رأسها الاهتمام بالحبكة والتشويق مع الاعتماد على أسلوب بسيط بعيدا عن الإطناب اللغوي الذي يراه مرهقا للقارئ، لكنه في الوقت ذاته يشدد على أن الاهتمام بهذه العناصر ينبغي ألا يتحول إلى إمعان في السطحية أو الاستهانة بفكر القارئ وعقله. فهذا النمط من الكتابة التفاعلية بدأ يحقق نوعا من التراكم يضمن له مكانة هامة في المستقبل كما أن هناك نوعا من الاهتمام النقدي به لكنه يظل محدودا إلى الآن.

الغربال النقدي

سامي معروق: طريق شاقة تنتظر الأدب الرقمي
سامي معروق: طريق شاقة تنتظر الأدب الرقمي

الشاعر والروائي اللبناني سامي معروف يرى أن الكاتب الأردنيّ محمد سناجلة هو الأبرز على صعيد الرواية الرقمية، والتفاعلية منها مضيفا “مع أني ضد الروايَة التفاعلية بالكامل، لأنها تنفي شخصيَّة الكاتب ورأيه وفكره ورؤياه. إنها رواية مُرَكَّبة من أمزجة وثقافاتٍ ومواهبَ شتّى! ولكنَّها بلا شكّ لونٌ أدبيّ حاضرٌ وجُمهورُه في طور التكوُّن. رواية ‘شات’ مثلا و’وداعا للوَرَق’ وغيرهما. والتّجاربُ الرقمية في بريطانيا واليابان أكثر تقدّما، بحيث هناكَ جوائز لأفضل روايةٍ منشورةٍ على جهاز الموبايل. وهناكَ أكثر من ألف متابع شارك في كتابة رواية واحدة! وهذا دليل واضح للذين ينعون الأدب.. فالأدب سيبقى باحثا له عن الأشكالِ الجديدة مع تطوُّرات الحياة وتجدُدها الدّائم”.

ويوضح معروف قائلا “أنا حامل معاناة مرّة لا تنتهي. إنها الهم الثقافي. وهكذا لسان حال معظم الكتّاب. أولا تقلص الثقافة الورقية لحسابِ الرقمية، وطريق الثقافة الرقمية سيكون طويلا شاقّا. فحيث لا نقد ولا حسيب ولا رقيب والجميع ينشر بكثافة مُخيفة.. سيبقى الوضع هكذا إلى حين تدخُّل الغربال النقدي والقوانين التي تحترم المستوى. والغربال آت حتما. ولن يسلم الأدبُ الورقي من الغربَلة، لأن دُورَ النّشر حاليّا تراعي السوق لا المُستوى الإبداعيَّ لغاياتٍ تجاريَّة. والشّعوَذات التَّسويقيَّة هي المُمسك بعُنق الثّقافة حاليّا. وثانيا أجاهد أن تُصيبَ نشَّابةُ كتابتي الأهدافَ الثَّلاثةَ معا: القضيَّة الإنسانيَّة والتَّجديد الأدَبيّ وتطوير أشكالٍ رقميَّة جذَّابَة. وفي نهايةِ المطاف إنَّ أدب المُستقبل هو أدَب رقميّ أكثر منه ورقيا”.

11