الأخيار يمرضون والأشرار يصحون

يئن الأخيار تحت وطأة أجساد أنهكتها الأعباء، بينما يتباهى الأشرار بقوة زائفة تكسوها الغطرسة، عندما تتداخل خيوط النوايا والأفعال، ويظهر هذا التباين كلوحة غريبة الألوان، فالطيبون يسيرون بقلوب مثقلة بالهموم، ويسعون لإصلاح ما أفسده الآخرون، فيما يتجول الأشرار في عالم يبدو أنه يكافئ تجاهلهم للضمير، ليس هذا حكمًا على إرادة عليا، بل انعكاس لاختيارات الإنسان وسلوكه، إذ يبدو أن الخير يأتي بثمن جسدي، والشر يحمل مكاسب مؤقتة تتوهمها الأعين سطحية النظر.
ويعاني الأخيار من أوجاع تراكمت في أرواحهم قبل أجسادهم، بينما ينعم الأشرار براحة وهمية تستر عجزًا داخليًا، فالطيبون بطبعهم، يحملون أحزان الآخرين كما لو كانت أحزانهم، ويرهقون أنفسهم في سبيل مبادئ يؤمنون بها، فتتحول أجسادهم إلى ساحة معركة صامتة بين الواجب والقدرة، أما الأشرار فهم يتقنون فن التخلي، ويعيشون في فراغ من المسؤولية يمنحهم قوة جسدية ظاهريًا، لكنها قوة خاوية لا تستند إلى عمق أو معنى، وهكذا يرسم البشر مصائرهم بأيديهم، فالأخيار يدفعون ضريبة وعيهم، والأشرار يجنون ثمار غفلتهم.
ويصارع الأخيار أمراضًا تولد من حساسيتهم المفرطة، بينما يتظاهر الأشرار بصحة تخفي هشاشة النفس، وكأن الشفقة عقاب والقسوة مكافأة، إذ يجد الطيبون أنفسهم أسرى لعاطفة تجاه الإنسانية تجعلهم عرضة للإنهاك، فكل دمعة يذرفونها على مظلوم تُترجم إلى وخزة في أجسادهم، بينما يمضي الأشرار في طريقهم دون أن يلتفتوا لصرخات الضحايا، فتبقى أجسادهم سليمة لأنها لم تتلوث بثقل التفكير أو الشعور، لكن أي صحة هذه التي تبنى على أنقاض الآخرين؟ إنها مجرد قناع يتهاوى عند أول مواجهة مع الحقيقة.
ويتأمل الناظر في هذا التناقض فيتساءل: أي منطق يحكم هذه المعادلة البشرية؟ فليس الأمر حكمًا إلهيًا يُساء فهمه، لكن نتاج اختياراتنا وسلوكياتنا في عالم نصنعه بأيدينا، فالأخيار يختارون طريقًا شاقًا يضعونه نصب أعينهم طوعًا، فيدفعون ثمنه من راحتهم الجسدية، بينما يسلك الأشرار مسلكًا سهلًا يتجنبون فيه المسؤولية، فيحصدون سلامًا مزيفًا يخدع العين لكنه لا يقنع العقل، وإنها مسرحية نكتب فصولها يوميًا، يظهر فيها الخير كضريبة الوعي، والشر كمكافأة الجهل، لكن العمق يبقى لمن اختاروا الوقوف مع الحق، ولو كان الثمن جسدًا متعبًا.
ويبقى الأخيار رغم أمراضهم، رموزًا لمعنى أعمق بينما يتلاشى الأشرار في ظل صحتهم الزائلة، فالطيبون بأوجاعهم ينسجون خيوطًا من الأمل في نسيج الإنسانية، ويتركون بصمة لا تمحوها الأيام، حتى وإن كانت أجسادهم تئن تحت وطأة التضحية، بينما الأشرار صحتهم ليست سوى وهم مؤقت، قشرة لامعة تخفي فراغًا لا يملؤه شيء، فما قيمة جسد سليم إذا كان الضمير مريضًا؟ فالحياة ليست مسألة عضلات أو أنفاس، لكن روح يصنعها الطيبون بصبرهم، ويفقدها الأشرار بغرورهم، وهكذا تظل القصة البشرية شاهدة على أن الخير، وإن مرض ينتصر في المعنى.
ويدفع بعض الأشرار ثمن شرورهم في الدنيا قبل الآخرة، فيمرضون وينتكسون، كأن المرض تطهير يمنحهم فرصة أخيرة لاختيار الخير، لكنهم قلة نادرة، بينما يبتلى الأخيار أحيانًا بالمرض والانتكاس، لكنها رحمة إلهية ترفع درجاتهم وتخفف أوزارهم، بينما يظل آخرون أمواتًا أحياء، لا يرون في الدنيا سوى أنفسهم ومصالحهم، ويمكرون في الوظائف والحياة اليومية وكأنهم مخلدون فيها، ويتوهمون أن الحياة ستظل تداريهم، غافلين عن عزرائيل الذي لا يستأذن أحدًا، فيأتيهم حيث لا ينتظرون تاركًا مكرهم ينقلب إلى مواجهة الخالق المنان.