افتقدنا مرح الطبيعة وهذيانها!

يصف نقاد العديد من الأعمال الموسيقية والغنائية للعصر الحالي بالهابطة، وليس هذا -على الأرجح- صراعا بين الأجيال أو نوعا من التجني والتقزيم للجيل الشاب، بل هي بالفعل تستحق ذلك التقييم السلبي، إذا ما قارناها بالإبداعات التي رغم مضي قرون عليها وما زالت خالدة إلى اليوم، بل وتستأثر باهتمام حتى الشباب، الذين يجدون فيها ما يعبر عنهم ويمس وجدانهم، إلى حد أن البعض لا يرتوي من بعض الأغاني والألحان، وقد يسمعها مرارا وتكرارا من دون أن يشبع نهمه الموسيقي.
من المؤكد أن لكل حقبة زمنية خصوصياتها، كما أن أذواق الناس تتغير مع مرور الزمن، ورغبة الجيل الحالي في الخروج من فلك الأسلاف قد ساهم بدوره في بروز إبداعات شبابية قيمة وممتعة، ومربحة أيضا من الناحية التجارية، ولكن بالكاد يمكن مقارنة بعض تلك الأعمال مع موروث الأجيال السابقة الذي ما زال يعيش حالة من الانتعاش ويحظى بثناء المعجبين والنقاد على حدّ سواء، ويحوز دائما على الإشادات الرسمية.
كثيرا ما أدهشني استمرار أصداء العديد من المؤلفات الموسيقية القديمة جدا إلى اليوم، وتساءلت عن السبب الذي جعل النسيان لا يطالها، وظلت محافظة على محبيها ومعجبيها حتى بعد أن مضت عليها عقود، لا بل قرون من الزمن.
هناك أنشطة أخرى كثيرة كان الناس في الماضي يمارسونها بانتظام في حياتهم اليومية، مثل اللعب في الهواء الطلق والتجول في الحدائق العامة والغابات
من غير المستبعد أن في الأمر سرّا ما، قد أكسب هذه الأعمال طابع العالمية، وجعلها على الأغلب تستحوذ على الذائقة الجماهيرية في معظم مجتمعات العالم، وتتجاوز الحد الفاصل بين الماضي والحاضر.
لا شك أن القوة التعبيرية والشحنات العاطفية المفعمة بالإحساس الداخلي العنيف للعديد من الأعمال الفنية والموسيقية، تكشف كيف جمع المبدعون في معظم الأحيان بين عدة معان وأهداف ولوّنوها بأحاسيسهم ونوازعهم النفسية وإدراكهم المرئي للعالم المحيط بهم، فكانت بالتالي أعمالهم نابضة بالمشاعر والأحاسيس ومؤثرة ومستثيرة لمشاعر الناس.
هناك مقولة شائعة تقول إنّ الفن الإنساني يتبع ما استطاع الطبيعة كما يتبع طالب العلم أستاذه، وكذلك التاريخ يشير إلى أن الإبداع الحقيقي ازدهر حينما كان الناس أكثر التصاقا بالطبيعة يرتمون في أحضانها ويتأملون عجائبها.
وتقول الأبحاث التي أجريت على مستوى العالم إن قضاء وقت بين أرجاء الطبيعة، يمكن أن يؤدي -مثلا- إلى استعادة التركيز، وتعزيز القدرات الذهنية، بل والحيلولة دون تراكم الضغوط والإجهاد على المدى الطويل، ما قد يخلّف بشكل ما آثارا إيجابية على مستوى الذاكرة والتركيز والإبداع.
وهو ما عبر عنه العالم الأميركي جون موير بقوله “عليك أن تظل قريبا من قلب الطبيعة.. وأن تخفف من كل شواغلك والتزاماتك من حين لآخر، لتُطهر روحك من كل ما يشوبها تماما”.
اللجوء للطبيعة يساعد البشر على تجديد عواطفهم بشكل جيد ويدفعهم إلى التصرف واتخاذ القرارات بشكل أفضل وأكثر دراية، وبناء عليه تتحسن جودة العلاقات الاجتماعية، لكن بعد أن ملأت وسائل التكنولوجيا الدنيا وشغلت الناس، انقطعت صلة الكثيرين بالبيئة الطبيعية، وأصبحوا أكثر التصاقا بالشاشات، ولم يعد معظمهم يشعر حتى بتغير الفصول.
لكل حقبة زمنية خصوصياتها، كما أن أذواق الناس تتغير مع مرور الزمن، ورغبة الجيل الحالي في الخروج من فلك الأسلاف قد ساهم بدوره في بروز إبداعات شبابية قيمة وممتعة
هناك أنشطة أخرى كثيرة كان الناس في الماضي يمارسونها بانتظام في حياتهم اليومية، مثل اللعب في الهواء الطلق والتجول في الحدائق العامة والغابات ولعب الورق وزيارة الأقارب وسرد القصص والحكايات، فألهوا بعضهم البعض.
مثل هذه المساحات هي التي تجعل الناس أكثر انفتاحا على الأفكار الجديدة وتساعدهم على تحفيز قدراتهم الإبداعية من خلال رؤية الأشياء من مناظير مختلفة. ولكن لو أخذنا بعين الاعتبار طبيعة حياة الناس اليوم ومظاهر التحضر والارتباط المبالغ فيه بالأجهزة الرقمية، من الصعب أحيانا مجادلة الرأي القائل إن الحياة العصرية قد أضرت بالصحة العقلية والجسدية للأجيال الحالية، وعلى الطريقة التي يتفاعلون بها مع العالم المحيط بهم، وعلى مشاعرهم وأحاسيسهم تجاه غيرهم والتي هي الأساس لمعظم الأشكال الفنية والتعبيرية، بمعنى أن الناس قد بدأوا يفقدون شبكة المعاني التي تتيح لهم إمكانية فهم أنفسهم ومعرفة موقع الآخرين عندهم، والتعبير عن ذلك بمختلف الأشكال الفنية والإبداعية.
يبدو أن الكاتب المتخصص بالشؤون التكنولوجية كريستوفر بوتر محق حينما قال إن “التكنولوجيا تطوِّر الحياة لنعيش داخل بيوتنا”، وحتى عندما يحاول البعض التحرر منها والانطلاق في نزهة فإن الأجهزة المحمولة والملبوسة ستبقيهم محبوسين داخل رؤوسهم.