افتراض سطحية الأطفال خيانة لمخيلتهم

الكاتب المميز هو الذي يجبرك على الاستمرار في القراءة، هو القادر على خلق حالة من الدهشة والروعة لدى القارئ، وتقديم منتج أدبي رصين.
الاثنين 2019/03/04
التسطيح لن يخدم القصة ولا الطفل ذاته

ما إن تلقي الشمس بأشعتها الذهبية على فراش نور وتداعب أنفها خيوط النهار، ونسمات الهواء الباردة تتسلسل من باب شرفتها المطلة على الحديقة المزهرة، حتى تنهض الطفلة، تفتح نافذتها لاستقبال يوم جديد.

ومضت الأحداث، سردت قصة طفلة التقطت سرنجة فارغة بها بعض دماء ملوثة بفيرس “سي” الذي كان يمثل رعبا من نوع نادر في هذا التوقيت، أصيبت الطفلة وغابت عن زميلاتها، انقطعت عن الدراسة تماما.

بدأت رحلتها مع العلاج، وبدأ الزملاء بدورهم الرحلة مع التساؤلات عن المرض وطرق الوقاية منه، والعلاج المتاح، ودور وزارة الصحة والجهات الحكومية المعنية بالتوعية بهذا المرض المعدي.

كنت أسوق المعلومة مغلفة بالحكي المتوازن بين السرد القصصي السريع، والاستفاضة في إيضاح المعلومة، ليستوعبها الطفل وتعلق في ذهنه في قصتي القصيرة للأطفال.

ففي عام بعيد من أعوامي الأولى في بلاط صاحبة الجلالة كنت مندوبة لجريدتي الحزبية العريقة بوزارة الصحة والسكان آنذاك، تجمعني علاقات عمل، وعلاقات ود بالكثيرين، وكنت أكتب القصة القصيرة، وبعض القصص المتناثرة للأطفال، وطلبت مني الطبيبة المسؤولة عن حملة الوزارة للتوعية بأمراض الكبد وفيرس “سي” للأطفال بأن أكتب قصة قصيرة لهم لتوعيتهم بهذا المرض الفتاك، ومسبباته وأعراضه، وكيفية الوقاية منه.

فكتبت قصتي، “الحقنة القاتلة”، قرأتها الطبيبة بتركيز، لكنها طلبت مني تبسيط الكلمات والبعد عن الرمزية للطفل حتى يفهم، فأطفالنا حسب وصفها عقولهم أضيق من استيعاب كلمات، رأتها مسؤولة الحملة أكبر من مستوى تفكير الطفل المصري، مثل (تلقي الشمس أشعتها، خيوط النهار، وغيرها من مفردات تعبيرية تضيف إلى النص جماليات تثريه، قالت إنها أكبر من مستوى الطفل المصري!)

ضحكت، هذا التسطيح لن يخدم القصة ولا الطفل ذاته، فهو تجريف لجماليات النص، وجريمة في حق الطفل، خيانة للحكي أن أجرفه من الجمال وأتركه مجردا، عاريا، متصحرا، هل أكتب نصا كسولا لإنعدام ثقتي في طفل أراه في قرارة نفسي نابغا وله من الوعي ما يؤهله لفهم الكثير من النصوص بل وتأويلها لاستنباط المعنى المختبئ بين سطور النصوص؟

أراهن على وعي الأم في الحفاظ على صغارها من العشوائية الأدبية والفنية والفكرية

هذا الطفل الذي تربى على قصص عالمية وعربية قصها عليه بعض مذيعي الأطفال في برامج إذاعية وتلفزيونية شكلت الوعي الجمعي للأطفال بما يليق بذكائهم، وقصص رمزية خطتها أيادي كتاب أطفال محترفين، تذوقوا شعرا بكرا لشعراء انتصروا للرمزية والقيم الجمالية المنثورة بذكاء بين الكلمات فأنتجوا من الشعر أعذبه وأقيمه، وقصص عالمية مترجمة إلى العربية بعيدة كل البعد عن الانحدار الفني واللغوي الذي يهبط بالمحتوى إلى التسطيح القاتل للخيال الإبداعي، والمفرغ للنصوص من معانيها الرمزية الراقية.

كان أحد وكلاء الوزارة يراقب الموقف من بعيد، وما إن أتيحت له الفرصة للحديث حتى انفجر في الطبيبة التي وضعت فرضية ظالمة لعقلية الطفل المصري ثم تعاملت معها كمسلمة وواقع لا مناص منه، يقولون إن النساء لهن حق السقوط المطلق في رذيلة الكتابة، وغواية الشعر وترقيق الكلمات، لكنني من الرجال الذين يملكون رصيدا متواضعا من الكتابة، ولم أتنازل يوما ما عن تعبيراتي البلاغية الراقية، وجملي الشعرية المنثورة، ولا نثري الغارق في الحالة الشعرية القوية، أنا لا أنحدر بحجة أن القراء يريدون هذا، ولا أتقشف في الكتابة بزعم عدم ثقتي الكاملة في من يقرأ، لأنه ببساطة من يقرأ قرر أن يستفيد ويزيد رصيده الفني من الروعة والدهشة.

أنا شخصيا أوقن بأنه، بمنطق جبان، هارب من مسؤولياته الأدبية، أخرجنا نصوصا ضعيفة، باهتة، شديدة الفقر، ولا أعلم هل هي لصالح القراء أم هم من يدفعوننا إليها أم تبريرا لحالة التدني والضعف العام التي نعيشها على كافة المستويات، الفنية، الأدبية، الغنائية وحتى الأخلاقية؟

قناعتي أن الكاتب المميز هو الذي يجبرك على الاستمرار في القراءة، هو القادر على خلق حالة من الدهشة والروعة لدى القارئ، وتقديم منتج أدبي رصين، حتى أن بعض جمل كتاباته يرددها البعض باستمتاع.

أغلقنا الراديو المنزلي أمام شدو أم كلثوم، عبدالحليم حافظ، وديع الصافي، فيروز، وسمحنا لأوكا وأورتيغا ومجدي شطة وحمو بيكا باختراق أسماعنا وتلويثها بتراهات سخيفة، وكلمات بذيئة، ومعان تحض على الانحدار في كل شيء، كما أطفأنا شاشات التلفزيون في وجه رقي فاتن حمامة، ورقة لبنى عبدالعزيز، ودلع شادية، وخفة ظل إسماعيل ياسين ونسينا جيل الفنانين الرائع من الشباب أمثال أحمد السقا، منة شلبي، منى ذكي، أحمد حلمي، وتركنا فتى أسمر يهبط بأبنائنا إلى القاع وللأسف الشديد يتخذه بعض شبابنا قدوة وأسطورة، بعدما نجح بفيلمين عن البلطجة وتجارة السلاح والمخدرات.

وأراهن على وعي الأم في الحفاظ على صغارها من العشوائية الأدبية والفنية والفكرية، وقدرتها على الوقوف سدا منيعا بين السموم الفكرية وعقول أطفالها.

21