اعتراف لندن بمغربية الصحراء ينقل العلاقات الثنائية إلى آفاق المستقبل

الحديث عن موقف بريطانيا الإيجابي من الصحراء المغربية لم يكن متسرعا أو ظرفيا، بل جاء أولا نتيجة تراكمات في العلاقات الثنائية، وثانيا اعتمادا على تقارير رسمية وغير رسمية من طرف شخصيات وازنة.
ولنعد هنا إلى تصريح السفير السابق في الرباط توماس رايلي عندما قال في أحد مقالاته قبل سنوات “لقد كنت راضيا كل الرضاء عن جميع رحلاتي وخطواتي بأرض المغرب، الذي عرفته منذ العام 1998، حين جئت كسائح، ولم أُفتَن فقط بروعة الجغرافيا وعبق التاريخ، بل امتد إعجابي ليلتحم بروح الترحاب المغربي وكرم الضيافة وبمجتمع مضياف، متسامح وكريم، متشبع بهذه القيم التي تعتبر قيمة مضافة تُثري مرامي تطوير الصناعة السياحية. ويبدو أنني لست الوحيد الذي بلغ به التيه بالمغرب محله، حيث وجدت أن عددا من البريطانيين يتقاسمون معي هذا الإعجاب بالجمال الطبيعي والتنوع اللذين يميزان البلد، فالشراكة البريطانية مع المغرب ممتدة في الزمن.”
هذا يعني أن الترابط بين الماضي والمستقبل يشكّل محورا أساسيا في علاقة لندن بالرباط، كون المغرب شريكا إستراتيجيا موثوقا، يتبنى جميع مقومات الديمقراطية الحديثة، ويقوم بإصلاحات بنيوية ذات أبعاد إستراتيجية.
◄ الاعتراف البريطاني بمغربية الصحراء سيكون مسمارا آخر في نعش جبهة بوليساريو، فالمسؤولون البريطانيون مقتنعون بأن مخيمات تندوف تشكّل مكانا خطيرا على المحتجزين الصحراويين
فالموقف البريطاني لم يأتِ بشكل اعتباطي أو غير مدروس، وما تم اعتباره ترددا كان في الحقيقة تريثا تم الحسم فيه ببناء روابط تجارية وسياسية وأمنية متينة، مع الأخذ بعين الاعتبار المخاوف من تعرض ما تم تحقيقه، أو ما تطمح إليه بريطانيا مع الرباط، للخطر والتخلف عن المنافسين والحلفاء مثل الولايات المتحدة وفرنسا وإسبانيا.
بعد إدراك الأهمية البالغة التي يُوليها المغرب للصحراء، من منظورٍ تاريخي وعاطفيٍّ وجيو-إستراتيجي، حسمت لندن موقفها من التردد الذي دام لسنوات، وأكدت بشكل رسمي وغير قابل للتأويل سيادة المغرب على صحرائه.
أهمية اعتراف الحكومة البريطانية بمغربية الصحراء تكمن في أنها ثالث دولة من بين الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي، ولم تجازف بخطأ تقديري كبير في نهجها الإستراتيجي الجيوسياسي، ليس فقط تجاه المغرب، بل تجاه شمال أفريقيا، كون المملكة عامل استقرار.
تمت دراسة القرار من جوانب عديدة تهم العلاقات مع المغرب، ومدى تأثير هذا الاعتراف في تطوير تلك العلاقات وتثبيتها. فالبريطانيون يعرفون جيدا من هو الملك محمد السادس، ويدركون ما تمثله الصحراء بالنسبة إليه شخصيا كملك للبلاد وأمير للمؤمنين، وحامي الديانات والحقوق. كما أنه يقوم بعمل مهم في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، بدعم الدول في تعاملها مع الهجرة، والتوترات العرقية والدينية، والظاهرة الإرهابية التي تسببت في الكثير من عدم الاستقرار في المنطقة.
الدوائر السياسية البريطانية تدرك جيدا الجهود الكبرى التي يبذلها المغرب في التعامل مع تدفقات الهجرة غير الشرعية إلى أوروبا، ومن ثم إلى المملكة المتحدة، عبر سبتة وجزر الكناري، خصوصا مع القلق والإحباط اللذين يسيطران على البريطانيين إزاء الهجرة غير الشرعية عبر القناة الإنجليزية.
هناك بالطبع فرص تجارية واقتصادية واستثمارية هائلة، فإلى جانب السياحة، حيث يزور المغرب ما بين 700 ألف ومليون سائح بريطاني سنويا، هناك مشاريع كبرى مثل شركة Xlinks التي يرأسها السير ديف لويس، والذي دافع عن روابط وثيقة مع الجانب المغربي، لتسهيل جهود شركته في تصدير الطاقة الخضراء عبر نقل الطاقة الشمسية وطاقة الرياح من المغرب عبر كابل بحري إلى بريطانيا، حيث سيتم تأمين 8 في المئة من احتياجات بريطانيا من الطاقة.
القرار البريطاني استحضر أيضا الجانب التجاري والاقتصادي في علاقات لندن بالرباط، وهنا نركز على تصريح بن كولمان، المبعوث التجاري لرئيس الوزراء كير ستارمر إلى المغرب وغرب أفريقيا، حيث أكد على التزام الحكومة بتعميق الشراكة مع المغرب، واصفا المملكة بـ”الشريك الموثوق”.
وأضاف، في كلمة له خلال ندوة “أيام أسواق الرساميل المغربية” في نسختها الثامنة، المنعقدة في الحي المالي بلندن قبل أيام “الحكومة البريطانية ملتزمة تماما بتعميق العلاقات بين بلدينا، وبصفتي مبعوثا تجاريا، فإنني عازم على الاضطلاع بدور في المساعدة على تعزيز الاستثمار وضمان قدرة المغرب والمملكة المتحدة على اغتنام الفرص المتاحة.”
◄ بعد إدراك الأهمية البالغة التي يُوليها المغرب للصحراء، حسمت لندن موقفها من التردد الذي دام لسنوات، وأكدت بشكل رسمي وغير قابل للتأويل سيادة المغرب على صحرائه
ومادام انتفاء أيّ صعوبات قانونية أو دستورية أو تقنية، فقد انتصر المنطق على التردد، وكان الاعتراف بأن مقترح الحكم الذاتي هو السبيل الوحيد للمضي قدما في حل هذا المشكل المفتعل، القادم من ترسبات الحقبة الاستعمارية، والتي زاد تعمقها بسبب تداعيات الحرب الباردة بين المعسكرين الشرقي والغربي.
في وقت سابق من هذا العام، زار عدد من المسؤولين السياسيين والعسكريين والدبلوماسيين الأقاليم الجنوبية، ووقفوا عن كثب على ما يقوم به المغرب في هذه الربوع من أرضه، من مشاريع تنموية، وبنية تحتية متطورة، وضمان حقوق سياسية ومدنية مهمة، ما دفع القضاء إلى الحكم بالسماح للشركات البريطانية بالاستثمار في أرض الصحراء المغربية دون تردد أو خوف.
لم تكن الطريق ميسرة أو سهلة على المسؤولين داخل الحكومة وخارجها، فهناك من أراد إبقاء الوضع على ما هو عليه، متذرعين بحجج غير مقنعة بأن الاعتراف بالصحراء سيؤثر سلبا على علاقة لندن بأقاليمها الخارجية، وخاصة جزر فوكلاند.
بريطانيا، بصفتها عضوا في مجلس الأمن الدولي، لم تعر موقف الجزائر أيّ اعتبار، فالجزائر لم تكن مستعمرة بريطانية، ومع ذلك لم تملك الجرأة السياسية لسحب سفيرها من لندن أو طرد البريطانيين من العاصمة الجزائر، كما فعلت مع باريس ومدريد، وفشلت في الضغط. بريطانيا ليست فرنسا أو إسبانيا، ولهذا اقتصر رد الجزائر على التعبير عن الأسف لدعم بريطانيا مقترح الحكم الذاتي كأساس لحل قضية الصحراء، لأنها باتت تعرف أن الكفة راجحة لمواقف المغرب ولا تستطيع تغيير هذا الواقع.
الاعتراف البريطاني بمغربية الصحراء سيكون مسمارا آخر في نعش جبهة بوليساريو، فالمسؤولون البريطانيون مقتنعون بأن مخيمات تندوف تشكّل مكانا خطيرا على المحتجزين الصحراويين، سواء بسبب انتهاكات حقوق الإنسان داخل المخيمات، أو للارتباطات الموجودة بين بوليساريو والجماعات الإرهابية في منطقة الساحل والصحراء.
المملكة المتحدة لديها تجربة قاسية مع الإرهاب، ولا تريد لمصالحها مع المغرب وأفريقيا أن تكون هدفا له.