اضطراب "تبدد الشخصية" يفصل الفرد عن واقعه

علماء يعتبرون اضطراب "تبدد الشخصية" ظاهرة نفسية، على عكس بعض الأمراض الأخرى التي تكون نتيجة الخلل الكيميائي في المخ، لذلك فإن علاجات العقاقير غالبا ما تكون غير فعّالة.
الثلاثاء 2019/07/02
اضطراب تبدد الشخصية ينتشر بين من تعرضوا لتجارب صادمة

تنتاب البعض مشاعر متداخلة بين الوعي واللاوعي بكل ما يحيط بهم، بما في ذلك أجسادهم، ويغلب على ظنهم أنهم مصابون بالذهان أو بأمراض نفسية معقدة. وقد يزداد وضعهم سوءا متى تم تشخيص حالتهم بشكل خاطئ.

واشنطن- كشف أطباء النفس أنه كثيرا ما يتم تشخيص اضطراب “تبدد الشخصية” على أنه أحد أنواع الاكتئاب أو الذهان. بينما أثبت علم النفس أن لهذا الاضطراب أعراض خاصة تتطلب علاجا مناسبا ومختلفا. تم توثيق اضطراب “تبدد الشخصية” لأول مرة في أواخر القرن التاسع عشر، من قبل الفيلسوف السويسري هنري فريديريك آمييل، الذي كتب آنذاك “في ما يتعلق بالوجود، أجد نفسي وكأنني خارج من القبر. كل شيء غريب بالنسبة إليّ. أنا، كما كنت، خارج جسدي وشخصيتي، أنا أعاني من تبدد الشخصية”.

نشرت الواشنطن بوست تقريرا مفصلا عن اضطراب تبدد الشخصية ونقلت عن إلين هانتر، استشاري علم النفس الإكلينيكي والتي أنشأت مؤخرًا عيادة متخصصة في علاج تبدد الشخصية في لندن، قولها إن الأمر يشبه “صندوق الصمامات النفسية الذي تم إيقاف تشغيله بشكل لا إرادي. غالبا ما يشكو المريض من الشعور بالتخدير العاطفي والجسدي والمعرفي”.

تضيف هانتر “يتم تدريب معظم الأطباء والأطباء النفسيين على الاعتقاد بأن اضطراب تبدد الشخصية هو أمر نادر للغاية، وعندما يكون موجودا، عادة ما تم تصنيفه كأحد الأعراض الثانوية لحالة أخرى مثل القلق أو الاكتئاب”. “هذا يؤدي إلى التشخيص الخاطئ باستمرار وهو ما يزيد من معاناة المريض. الأمر يشبه محاولة إصلاح مشكلة في الركبة عن طريق علاج الصدر”.

قادت دافني سيميون، لسنوات عديدة، عيادة مماثلة لاضطراب تبدد الشخصية في كلية الطب، المتخصصة في مجموعة متنوعة من العلاج النفسي والعلاج النفسي الدوائي في نيويورك.

وبمشاركة جيفري أبوغيل، نشرت سيميون كتابا عن هذا الاضطراب اختارت له عنوان “شعور غير واقعي”. ونقلا عن مريض يدعى جوان، كتبت، “أنا أفضل الإصابة بالسرطان عن المعاناة من هذا الاضطراب. مع مرض يعرفه الناس يمكنك الحصول على قدر من التعاطف. ولكن إذا حاولت أن تشرح اضطراب تبدد الشخصية، فإنهم سيعتقدون أنك مجنون أو غير قادر على الاستيعاب تماما. لذلك عليك السكوت والمعاناة في صمت”.

أزمة الذات

في كتابه الذي يحمل عنوان “انقسام الذات” (ذو ديفايدد سالف)، تحدث عالم النفس الاسكتلندي، رونالد لاينغ، عن مريض يدعى جيمس ويبلغ من العمر 28 عاما، “كان يشكو طوال الوقت أنه لم يستطع أن يصبح ‘شخصا'”. “ليس لديه كيان”. كان يقول “أنا مجرد استجابة لأشخاص آخرين، ليس لدي هوية خاصة بي”. لقد شعر أنه يصبح أكثر فأكثر “شخصا أسطوريا”. شعر أن “لا وزن له ولا جسد خاصا به”.

يقول جيمس تشارني، وهو طبيب نفسي في كلية الطب بجامعة ييل الأميركية، إن أفكار وسلوكيات الأشخاص الذين يعانون من تبدد الشخصية تتعارض مع احتياجات وأهداف “الأنا”. ويصبح المريض “غريبا على صورته الذاتية المثالية، الأمر الذي يمكن أن يدمر حياتهم ومن حولهم”.

شعور غير واقعي
شعور غير واقعي

وفقًا للدراسات التي أجريت في الولايات المتحدة وبريطانيا، يؤثر تبدد الشخصية على 2 في المئة من السكان، 6.4 مليون في الولايات المتحدة و1.3 مليون في بريطانيا. ويشبه التعامل مع هذا الاضطراب ما كان مع الشيزوفرينيا والاضطراب الثنائي القطب وهي أمراض صارت الآن مفهومة بشكل أفضل. وعلى الرغم من أن معايير الاضطراب قد توسعت في الإصدار الأخير من “الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات العقلية”، إلا أن الأطباء لا يزالون غير مهتمين بأنه مرض مستقل بذاته. فما هي أكثر العوامل المسببة لهذا الاضطراب النفسي؟

تفسر هانتر أن الأبحاث الحديثة قد ميزت ثلاث فئات رئيسية: الصدمات النفسية والقلق الحاد وتعاطي المخدرات. “إذا تم إهمال علاج شخص ما في مرحلة الطفولة أو بعد تعرضه للإيذاء، فقد يزداد الأمر خطورة. كما أن استخدام الحشيش أو الكيتامين أو مجموعة من العقاقير يمكن أن يعزز أيضا ظهور المرض عن طريق إثارة حالة من الذعر، نتيجة التعاطي.

العلاج السلوكي المعرفي هو أكثر أشكال العلاج شيوعا. ويرتكز هذا العلاج على رسم لتباين المشاعر ومعالجتها، إلى جانب رسم ما مر به الفرد في الطفولة مع ذكريات الصور المرتبطة بها. الفكرة هي أن يقوم المريض ببناء جسر بين “أنا” و”نفسي”. ومن خلال الحد من مراقبة الأعراض والسلوكيات، تكون العين الخارجية قادرة على إعادة استيعاب الجسم، بمرور الوقت. ويعد أكثر أشكال العلاج حداثة هو إدخال الذهن في بيئة سريرية. لكن يرى الباحثون أن هذا العلاج مثير للجدل إلى حد ما.

ويعتبر العلماء هذا الاضطراب ظاهرة نفسية، على عكس بعض الأمراض الأخرى التي تكون نتيجة الخلل الكيميائي في المخ، لذلك فإن علاجات العقاقير مثل مضادات الاكتئاب غالبًا ما تكون غير فعّالة. ومع ذلك، قد تساعد في الحد من أعراض الاكتئاب والقلق المشترك.

أهمية التشخيص الصحيح

كشفت الدورية الطبية البريطانية، “بي.أم.سي سايكايتري” أن اضطراب تبدد الشخصية غير خاضع للمتابعة والتشخيص المناسبين، كما ينبغي، في ألمانيا. وذلك رغم توصية الكثير من الدراسات بضرورة أن يكون التشخيص متكررا وبشكل منتظم مثل مرض فقدان الشهية العصبي.

كما أجرى فريق من الباحثين مسحا شاملا واسعا لإصابات هذا الاضطراب في مركز للصحة العقلية مع عيادة متخصصة في علاج المرض. وقاموا بمقارنة مرضى تبدد الشخصية، الذين استشاروا عيادة متخصصة، مع مجموعة من المرضى الذين يعانون من اضطرابات الاكتئاب فقط.

تتألف العيّنة من 223 مريضا يعانون من متلازمة تبدد الشخصية و129 مريضا يعانون من اضطراب اكتئابي، لكن دون تشخيص مرضي عن إصابتهم بأعراض المتلازمة. تم وصف مرضى المتلازمة ومقارنتهم مع مرضى الاكتئاب في العيادات الخارجية من حيث الخصائص الاجتماعية والديموغرافية وتاريخ العلاج ورغبات العلاج والأعراض السريرية والضغوط النفسية والاجتماعية السائدة والتاريخ العائلي للاضطرابات النفسية الشائعة وتاريخ الصدمات النفسية في مرحلة الطفولة.

نوبات تبدد الشخصية أو الاغتراب عن الواقع يمكن أن تكون مخيفة ومعوقة ويمكن أن تؤدي إلى صعوبة في التركيز

وعلى الرغم من ارتفاع نسبة الاعتلال المشترك لمرضى تبدد الشخصية الذين يعانون من اضطرابات الاكتئاب والعبء المشابه لأعراض الاكتئاب والقلق، إلا أن الصورة السريرية ومسار كلتا المجموعتين من المرضى اختلفت بشدة. كان مرضى اضطراب الشخصية أصغر سناً وأغلبهم من الذكور ومدة مرضهم أطول وتعرّضهم للإصابة كان بعمر مبكر ولهم تعليم عالٍ ولكنهم كانوا في أغلب الأحيان عاطلين عن العمل. ويميل المرضى إلى إظهار ضعف وظيفي أكثر حدة. وكانت لديهم معدلات أعلى من استخدام الرعاية الصحية العقلي.

أيّد جميع مرضى تبدد الشخصية تقريبا الرغبة في الحصول على استشارة خاصة بالأعراض وكان 70.7 بالمئة منهم مهتمين بمعالجة مشكلاتهم على الإنترنت. بينما كان لمرضى الذين يعانون من مرض التصلب العصبي المتعدد مستويات أقلّ من تجارب الطفولة المؤلمة ذاتيًا والضغوط النفسية والاجتماعية الحالية. ومع ذلك، فقد ذكروا تاريخا عائليا مليئا باضطرابات القلق في الكثير من الأحيان.

ويشدد الأطباء على أنه على الرغم من أن هذا الاضطراب هو تغيير في التجارب الذاتية للواقع المحيط، إلا أنه لا يعدّ شكلاً من أشكال الذهان. بالتالي فإن الذين يعانون من هذا الاضطراب لديهم القدرة على التمييز بين خبراتهم الداخلية الخاصة وبين الواقع في العالم الخارجي. حتى في حال استمرار حالة اضطراب تبدد الشخصية يستطيع الذين يعانون منه التمييز بين الواقع والخيال؛ بمعنى آخر فإن فهمهم وإدراكهم للواقع لا يزال مستمرا في جميع الأوقات.

17