اسكندر نجار وروايته "برلين 36" وصعود النازية

“برلين 36" عنوان الرواية الصادرة حديثا للكاتب اللبناني اسكندر نجار عن دار الساقي – بيروت في طبعتها الأولى، برلين في عام 1936 كانت آخر مكان يمكن أن يستضيف الألعاب الأولمبية، نظرا لموجة العنصرية التي كانت سائدة في ألمانيا، وهي طبعا عكس المثل الأولمبية ومبادئها السامية. بحذر بالغ يجوب خلالها الكاتب في الوضع التاريخي الاجتماعي، والتفاصيل الذاتية والعائلية والمجتمعية الدقيقة، لدورة الألعاب الأولمبية التي أقامَها الرايخ الثالث. وفي فلكه يدور حشد من الشخصيّات: الفوهرر الذي عقد العزم على تضليل العالم، مُظهرا ألمانيا كدولة تريد نشر السلام؛ والوزيران غوبلز وغورينغ اللذان دبّرا ألف خطّة لاستغلال الألعاب كمادة ترويجٍ سياسيٍّ للنازيّة؛ لتكشف الرواية عن شخصيات متعددة اقتحمت النازية في عقر دراها وتصدت لها، كجيسي أوينز العدّاء الأسود الذي تحدّى النازيّين ونظريّاتهم عن التفرقة العنصريّة، من خلال فوزه بأربع ميداليّات ذهبيّة، والصحافية الفرنسية الشجاعة كلير لاغارد، وعازف البيانو أوسكار، كما تقتفي أثر الشيخ بيار الجميل، مؤسس الكتائب اللبنانية الذي صادف وجوده هناك ويكتشف، بدهشَة، الجانب الآخر من المشهد..
رقصة فالس من ثلاث خطوات
في هذه الرواية الكثيفة المتشعّبة، الواقعة في 59 فصلا تحت عناوين غاية في التفنن، يتقن اسكندر تحريك الخيوط الممسكة بالشخصيات الحقيقية في غالبيّتها، والمتخيلة في بعضها، مظهرا تحكم الأنظمة الديكتاتورية بالشعوب عبر الإرهاب الفكري والجسدي وقمع الحريات، وكيفية مقاومتها بالقلم والفن والرياضة! وكأنّها رقصة فالس من ثلاث خطوات. لنقف أمام كتابة بصريّة، تصفّت من أعبائها اللفظيّة وغائيتها المباشرة، لتصبح حقلا من التعبيرات والتشكيلات، من الاحتمالات والرؤى. رواية متوترة تدلل على واقع مرهق، وتشخّص ملامحه بقوة في حبكة، لها وظيفة إحلال المتلقي داخل النص، باعتبارها الممر الوحيد والإجباري لتصنيف النص كرواية، اعتمدها الكاتب لتأثيث الحبكة الروائية لتزداد كثافة نفسية وشعورية مؤثرة وهي الاعتماد على تقنية الاستيهام وتقنية الحلم وتقنية الاستبطان، ذلك أن الرواية إذا كانت تمتلك هذا الامتداد على مستوى الفضاء الروائي التخييلي، فإنما يعود ذلك إلى هذا التأثيث بالذات، حيث تنغمر الذوات في مسالك حلمية واستيهامية واستبطانية تملأ حيزا كبيرا من الرواية، وتتحول إلى مادة أساسية لتجعلنا نكتشف الشخوص الروائية من الداخل.
ومقابل ذلك فإن الكاتب، لأجل أن يسمح لنا بمعرفة خارجية ومكتملة ودينامية للشخوص والعلائق التي تصل بينها، فإنه التجأ إلى مكوّنين أساسيين وهما اعتماد المحكي الاسترجاعي الذاكراتي واعتماد البنية التعبيرية الحوارية. ونجد أن كلا من الاسترجاع والحوار يصيران وفق إيقاع متكافئ.
ورغم طول الرواية نصّياً، فإنها لا تسقط القارئ في فخ الملل، نظرا لهذه الخصوبة التنويعية حيث تتداخل الذاكرة بالحوار والحلم والاستبطان والاستيهام وفق إيقاع ترسي حركيّته الحبكة الإطار المنجزة لكلية العمل الروائي. فما يُحدِّثُ به أبطال الرواية يشي بتميزه في لغة تتمرد على اللغة التقريرية المباشرة، وتقف على مسافة منها.
كذلك لا يمكن الزعم بدلالة ثابتة للنص، أو معني حقيقي تنحصر مهمة القارئ في العثور عليه.. إن النص يرشح بدلالات تاريخية متعددة، تخضع لشبكة معقدة من العلاقات الظاهرة والمضمرة، وهذا ما يجعلنا ننظر إلى الدلالة بوصفها سيرورة نصية تداولية، يتحكم فيها محفل الإنتاج ومحفل التلقي. بغرائبيّته، ومكره اللذيذ، القائم على المزج بين المحسوس واللاّمحسوس. وهنا يأتي رأي الشاعر والناقد اللبناني عبدو وازن بأن ” برلين 36 ليست رواية تارخية فقط، ولا رواية وثائقية ولا رواية حب، أو رواية رياضة إنها رواية كل هذه الانواع مضافا إليها البعد السينمائي المتجلي في لعبة التقطيع المشهدي المتين وفي الإيقاع المتواتر، وكذلك التخييل و الطرافة “.
فلا يتخلّى السرد عن هيبته ولا يستكين بحكم اقتراب النهاية، لأن في هذا الموت المتذبذب، إيقــاعاً خفياً يبقي اللحظات الأخيرة من الحكاية، متوترة وشيقة تشدنا إلى نهاياتها من دون أن تستعجلنا، إنه أسلوب يشبه نفخ الأنفاس في رئة غريق، أنفاس متلاحقة لا تتوقف، لذلك فإن حياة الحكاية، تستمر إلى آخر رمق ممكن، بالرغم من تورطها بكليشيه الموت كحادثة أخيرة.
فإذا اعتبرنا إن البناء الدائري للرواية يمثل محورا مركزيا في صياغة الاتجاه السردي، فثمة – على مستوى الموضوع – تأويل ضمني لسيادة العبث على الحياة بشكل نهائي، بوصفه صورة منطقية لعد الحياة دائرة مغلقة، فــ”برلين 36" رواية لاستعادة الحياة.
نموذج للسرد ما بعد حداثي
مما لا شك فيه أن عملية القراءة تشمل إلى جانب التمتع بالنص وتذوق جماله الفني عملية الاستفادة، أيضا، من الرؤى والعوالم والدلالات الروائية التي يبثها الكاتب بين سطوره. انطلاقا من هذا البعد يعد تأويل النص الروائي ومحاولة تفسيره وربطه بإشكالات معينة ثاوية في طوايا النص، أو كامنة في دواخل القارئ ومرتبطة بانشغالاته استراتيجية ضرورية للتعامل مع الإبداع الروائي. من موقع تصور ما بعد حداثي يقارب النص الإبداعي الروائي في سياقاته المعرفية السردية المتشعبة والغنية بالدلالات والرموز، فالكتابة التاريخية نوع من الميتا تمثيل، تشترك مع السرد التخيلي في الإحالة على نفس المرجع، أي “الزمانية”، وإن اختلفتا في طبيعة الأحداث. وإذا كان السرد التخيلي يحيل على أحداث متخيلة، والسرد التاريخي يحيل على أحداث واقعية، فإنهما معا يوظفان الشكل السردي، ذلك أن السرد شكل للكلام، كليّة، مثل اللغة ذاتها، وصيغة للتمثيل اللفظي.
|
وتشكل مقولة “الزمانية” المفهوم المحوري في نظرية بول ريكور السردية إذ تقوم على أساس أن الزمانية هي البنية الوجودية التي تصل اللغة في السردية بما أن الأخيرة كبنية لغوية تشكل الزمانية مرجعها الأخير. واستنادا إلى هذه المعادلة يتميز الزمان بطبيعته السردية. إن كل ما يروى يحدث في الزمان، وكل ما يحدث في الزمان يكون قابلا للحكي. وما يؤسس هذه العلاقة التلازمية بين طرفي المعادلة، هو الخاصية التصويرية للسرد، لأنه ليس مجرد متوالية من القصص والأحداث، إنه في الأساس، صياغة تصويرية للزمان. وإذا كانت التجربة الإنسانية تتميز بتنافر عناصرها، وامتدادها كمتصل لا شكل له، فإن وظيفة السردية هي تشكيل صور تعبيرية لها، إذ تمفصلها إلى كيانات سردية ودلالية قابلة للإدراك، وتضفي عليها طابع المعقولية.
وبذلك تشكل الحبكة سيرورة البناء والتنظيم، وفي غيابها يستحيل وجود عالم نصي، لأنها ليست سوى الطريقة التي يتم بها تنظيم ومفصلة وتقطيع المواد المجتزأة من التجربة في مسار دلالي مولد للمعاني. وتقود عملية تتبع هذا المسار الدلالي إلى إدراك وتفهم نتائجه وغاياته لأن جميع الأنظمة الرمزية تقود- كما يقول ريكور- إلى تصوير الواقع، وبالأخص، أن الحبكات التي نبتكرها تساعدنا على تصوير تجربتنا الزمانية الغامضة، والفاقدة للشكل.
بطاقة الكاتب