استهداف الإعلاميين في العراق: صَغّر "صمونة" الحقيقة كبِّر صورة النظام

الفضائيات المحليَّة في العراق بعد الاحتلال الأميركي كانت شبيهة بأفران الخبز، توفِّرُ لكلِّ فردٍ رغيفاً من الرأي العام، المحشور في كيس هذه الطائفة أو تلك مُتنكِّراً باسمٍ حزبي. الفُرن والرغيف كانا ليُصابا بالعطالة لولا البرامج الحِوارية السياسية. الفرنسي بولييه عام 2004 كان له توصيفٌ آخر “المناقشات التلفزيونية قادرة على تشكيل مصانع محلية حقيقية للرأي العام من خلال تسهيل ظهور مناقشات في الأماكن العادية مثل ماكينة القهوة في المنشأة”.
كثرة الأفران وقلَّة الفرَّانين المحترفين، هددا جودة الرغيف وهددا مشروع الشعبيَّة لأحزاب البلاد. الحل كان في صُنعِ فرَّانين من نوعٍ خاص “الرفيق الإعلامي”. هذا المصطلح قُمت بسكِّه يأتي من معدنٍ تاريخي حيثُ الفرقة الدينية الإسماعيلية هي أوَّل من استخدمت مفردة “الرفيق” في السياق السياسي. أمَّا نقَّاشو المعدن فقد استعرتهم من بلاد اليانكي ونموذج التواصل السياسي “المشوَّش” لديهم مطلع عشرينيات القرن الماضي.
الإعلامي الرفيق كان يجب عليه أن يشوِّش (يمزج) ثلاثة أنواع من المواهب التي تنتمي إلى اختصاصاتٍ مختلفة، لصنعِ رغيف رأي. الفرنسي فيليب ريتور يُحدِّدُها بـ”تشوش ثلاثة نشاطات: عالم الصحافة (خصوصاً السمعية البصرية)، عالما العلوم الاجتماعية والتسويق، وعالم الخبراء في الاتصالات الماثلين في محيط محترفي السياسة”.
وظيفةُ زميل المهنة هذا والرفيق الحزبي هو احتِراف دور “المُكاسِر” الإسماعيلي، والذي يمتلِكُ بعض شبهٍ كبير لـ”المؤيَّد” في تنظيمات حزب البعث العربي الاشتراكي المحظور في القوانين العراقية بعد 2003. وظيفة الأول هي إقناعُك بعقيدته الحزبية (عبادة الزعيم) أو على الأقل زرع الشك في جدوى هويتك الوطنية والأيديولوجيات التقليدية الموصِّلة لها: القومية، الشيوعية، الليبرالية (واقعياً لا تمثِّلُها الآن سوى قطط المال العام التي تلتهم لحم ميزانية البلاد وتتركُ شحم مشاريعٍ أثريَّة)، وقيمة هويتك الفرعية.. الطائفية والعرقية والعقائد الحاضِنة لها. أمَّا الثاني فتنحصِر وظيفته بالشعار البعثي الشهير “نفَّذ ثُمَّ ناقِش”. أي أنَّ الأول هو الخِضْر والثاني موسى.
استهداف بعض الإعلاميين في عراق ما بعد 2003 قضائياً، دائماً ما كان شبيها بأسلوب "الرنجة الحمراء" في التفاوض.. التركيز على نقطة ما في أجندتك ليست ذات أهمية لتُخفي النقاط المهمة الحقيقية
أسلوبُ الزميل “الرفيق الإعلامي” على الشاشة التلفزيونية بدورهِ فريدٌ جدّاً.. أفلاطوني. ليس بالمعنى الطوباوي، أي تصوير البلاد “قمراً وربيعاً” كما تفعل طائفة “البلوغرز” المحليَّة والمستورَّدة من المنطقة العربيَّة. بل بالمعنى الأدبي الذي ينتقِدهُ أفلاطون “هذا الكلام الأبكم يلف ذات اليمين وذات الشمال غير عارفٍ إلى من ينبغي التكلُّم وإلى من لا ينبغي ذلك”.
الفساد والأجندة الخارجيَّة التخريبية والبعث المحظور هي أضلاع مثلث برمودا التي تُغرِق سُفن الطهارة الحزبية، وهي الهواء الساخن الذي يندفِعُ من البُنى التحتية الرائعة في العراق، لترفع تنُّورَة مارلين مونرو، إنجازات ذلك الزعيم أو غيره.
فرادةُ الزميل الإعلامية المُشبَّعة بالزيت الأدبي، أدَّت إلى أضرارٍ جانبيَّة بسبب التكرار المُفرِط للأسباب الذهبية (الفساد.. وإلخ). سبَّبَت إعلاء الحقائق الصامتة على حساب الأسباب الذهبية الصائتة. كانت النتيجة وبتوظيفنا لكلمات جاك رانسيير “إن الكلمة الصامتة لواجهة، أو بالوعة، تتكلم أفضل من أيّ خطاب، لأنها لا تريد أن تقول شيئا، ولأنها لا تستطيع أن تكذب”.
الحقائق الصامتة مثل البيوت المتهالكة بتغليفٍ فخم، امرأة عراقية من الديانة الصابئية استولت ميليشيات على بيتها، الشوارع المليئة بتجاعيد الحفر والمطبات، انتشار العشوائيات الحضرية، الموت نتيجة عدم القُدرة على تحمُّل تكاليف العلاج وغيرها، غلبت نظيرتها الصائتة التي يجترُّها الزميل.
“الرفيق الإعلامي” الذي يُمارس مهن الصحافي، عالم اجتماع، محترف تواصل سياسي، مكنسة داخل البيوت الإعلاميَّة تطرد غبار الصحافة الحقيقية، ومشروع رجل سياسة تحتاجهُ الأحزاب، لم يعُد قادراً على “تطمين الرجل السياسي بالنسبة إلى عظمته، ورفع الشكوك وإزالة المخاوف، والوقوف بينه وبين الناخبين لتقريبهم من بعضهم على نحو أفضل” وذلك بحسب توصيف رانسيير الذي اختزلتهُ مبقياً على أهمِّ ما فيه.
القيام بهذا التعدد يحتاجُ حرية حركة، وتغيير العشوائيات الحزبية. إن لم يتمكن من ذلك سيُصبح صفراً حالما يعلقُ بشكلٍ صريح في شِباك الواحد.. هذا الزعيم أو ذاك. كيف سيستطيع إذاً هذا الزميل.. المصباح النيون أن يكون إعلاناً سياسياً لصالح المُشغِّل الحزبي؟ وأن يمنع عنه أعمال السحر الشريرة التي تُدفنُ ضِدَّه في الفضائيات المنافسة وفي فضاء الرأي العام بممارسة فنِّ النغانغا الأفريقي المُخصَّص لحماية القادة السياسيين؟
الحل كان بتعضيد الرفيق الإعلامي بـ”الصفاعنة”. تلك الكائنات البشرية: قوَّاد عسكريون، خصيان، ومهرجون يضربون على القفا لإضحاك الحاكم، استورِدوا من تاريخ العصر العباسي. طبعتُهم الآن تُسمى شعبياً بـ”الزبابيك” بالكاف المُعجَّمَة. هم لا يُضربون اليوم جسدياً. وظيفتُهم الأساسية أن يعاملوا المشاهد العراقي كشيخ قبيلة. هم من عرفتهم الحياة القَبَلْية في العراق بـ”مضحج الشيوخ” بالجيم المُعجَّمَة.
وظيفة “الصفعون” المُفرد إذا صحَّت اللفظة هي: قول الهُراء، اغتيال المختصين على الشاشة، التشهير بصُنَّاع الرأي العام المنتقدين للنظام، واتهامهم بمحاولة ابتزاز الحكومة ومؤسسات الدولة، وأخيراً وصم المعارضين السياسيين بالصدَّامية – نسبةً إلى رئيس النظام العراقي السابق – لكن الأهم هو توفير ذخيرة لغوية وأسئلة غبيَّة يستخدمها الرفيق الإعلامي للنيَّل من خصوم راعيه الزعيم الفلاني أو العشوائية الحزبية الفلانية.
"إن الكلمة الصامتة لواجهة، أو بالوعة، تتكلم أفضل من أيّ خطاب، لأنها لا تريد أن تقول شيئا، ولأنها لا تستطيع أن تكذب"
الحقائق الصامتة، مثل ما تعرضت له المرأة العراقية الصابئية، كشفت حقيقة اتساع فضاء الرأي العام وبأنَّ “الرفيق الإعلامي” و”الصفعون” ليسا قادرين على ملء هذا الفضاء. هنا كانت الحاجة إلى “المستشار”. رئاسة الحكومة الحالية وظَّفت ما يُقارب 220 مستشاراً بحسب تقديرات أحد الإعلاميين العراقيين. هذا الرقم الكبير هو لتسويق “بيانات شجرة الميلاد”. هذا المصطلح الذي يستخدمُ عادةً لوصف البيانات الرسمية التي تقول أشياءً كثيرة لتعوِّض يدها القصيرة في الفعل. كذلك هم يمارسون أعمال الاستطلاع السياسي لصالح الفريق “الإطاري” المُسيطر على الحكومة، تحديداً، المُعيَّنين تحت يافطة مستشار سياسي. أيضاً هم وبالضرورة همزات وصل مع الميليشيات لتوصيل الرسائل، الأوامر، التمنيات، وبالتالي مسح البصمات الحكومية، المُراد إخفاؤها في عملية الفحص الدولية والإقليمية لطبعة أصابعها السياسية، والتي باتت تخضعُ لها الآن بشكلٍ دوري.
هذا الكرش الإعلامي الكبير للنظام، دفعها في الأيام الأخيرة لمحاولة تقليص العضل الصحافي الحقيقي ونسبي الوجود في البلاد. مثلاً اعتقال المدون السوشيالي ياسر الجبوري (لا أعرف توجهاته الحزبية والأيديولوجية)، إيقاف بعض المقدِّمين للبرامج السياسية الحوارية في فترةٍ سابقة، مثل محمد جبار(خلفيته الحزبية الديمقراطي الكردستاني)، والحكم على الأكاديمي الإعلامي قصي شفيق بسنة مع إيقاف التنفيذ (لا أعرف توجهاته الحزبية أو الأيديولوجية)، وإيقافه عن العمل لثلاث سنين أُخرى، لنقلِه مناشدة شخص مُسنّ، رغم أنَّهُ نوَّه وكما يفعل أغلب المقدِّمين بأنَّ “حق الرد مكفول”. هؤلاء السادة اُستهدِفوا لأن انتقاداتهم للعمل الحكومي والعملية السياسية، عابِرة للطوائف نسبياً. “الصفاعنة” و”الرفاق الإعلاميون”، والصحافيون الحقيقيون النسبيون (رغم انتماءاتهم الحزبية أو تخادمهم مع القوى السياسية بالعمل في مؤسسات الدولة المُسيَّسة لأجل رغيف العيش) يختفون أثناء حملات المطاردة للإعلاميين والمدوِّنين السوشياليين المؤثِّرين. الحملة يقوم بها النظام اليوم بواسطة القضاء العراقي الذي أعلن صراحة أن الحِفاظ على النظام من أهدافه المركزية!
استهداف بعض الإعلاميين في عراق ما بعد 2003 قضائياً، دائماً ما كان شبيها بأسلوب “الرنجة الحمراء” في التفاوض.. التركيز على نقطة ما في أجندتك ليست ذات أهمية لتُخفي النقاط المهمة الحقيقية. الهدف الواقعي لما يحصل وبحسب تقديري اللاأفلاطوني كما آمُل؛ هو الاستدارة الحادة في عمل حكومة الإطار مع جميع اللاعبين السياسيين.. شركاء اليوم بعد أن كانوا: إرهابيين، طائفيين، عُملاء لدول الخليج العربي أو الولايات المتحدة و.. إلخ. كذلك ترويج فكرة نضوج النظام بأنَّهُ أصبح قادراً على استخدام قوَّة العنف.. لكن مع من يريد لا من يستحق ودون قوانين راسخة وواضحة.
اللطيف أنَّ الرئيس النيابي السابق محمد الحلبوسي برَّر أخطاء نظام ما بعد 2003 بأنَّها نتيجة معاملة الخارجين على القانون، الدولة والشعب بروح “خطيَّة” أي إنَّهُ نِظامٌ رحيم أو “يمتلك قلب والدة” كما يذهب المثل الشعبي العراقي. وكذا أيها القارئ توتة.. توتة ولن تنتهِي الحدوتة.