استمرار الإرهاب ينعش الفن الساخر في العالم العربي

عمرو سليم: الأصوليون يعادون الكاريكاتير لأنه يُعريهم ويفضح تفكيرهم.
الاثنين 2020/07/27
التطرف آفة تنخر العالم العربي

الجمال فن وإبداع وثقافة ابتكار وكتابة وتدوين وموسيقى ورقص ورسم، وبلوحة مبهرة تنتصر حضارات، وتخلدُ أعمال، وتُشحذ همم، وبرسمة جميلة تتغيّر معالم، وتنفتح أبواب وتسقط ممالك شامخة. وفق هذه الرؤى الجمالية يتلخّص دور الفن الساخر، أو فن الكاريكاتير كما يراه الفنان المصري عمرو سليم.

الكاريكاتير، فن خاض ولا يزال يخوض العديد من المعارك في الأوطان العربية برؤى جمالية تكشف المستور وتميط اللثام عن بعض الجوانب السلبية في حياتنا اليومية بطريقة لاذعة أساسها السخرية.

وفق هذا الفهم يقول رسام الكاريكاتير المصري عمرو سليم “يمكن النظر إلى قيمة فن الكاريكاتير في معارك الحياة، ويمكن التعرّف على ما فعله هذا الفن الساخر من إنجازات حقيقية. كيف بدّل المفاهيم والأفكار، وغيّر التصوّرات، وقاوم القبائح. كل ذلك يجعلنا نضع أيادينا على أهمية الكاريكاتير في مقاومة عواصف الإرهاب الديني المُشتّتة للعالم العربي كأحد مظاهر القبح المصنوعة والمستثمرة لتمزيق الأوطان”.

يرفض عمرو سليم في حواره مع “العرب” ما يطرحه البعض حول انزواء فن الكاريكاتير في العالم العربي أو غيابه عن معارك العرب الآنية، فما زال أحد أهم أسلحة الحضارة الفعالة في مقاومة الأصولية، فالمعركة مع الإرهاب تحتاج إلى مواجهة إبداعية، مثلما تحتاج إلى مواجهات أمنية وفكرية وسياسية.

ويرى الفنان المصري أن “أولى خطوات المقاومة الإبداعية هي السخرية، وهي الأكثر تأثيرا وانتشارا وفعالية، من مقالات الصحف، وخطب الساسة، وبيانات المسؤولين، فهي تقف دوما على ضفة الحرية، والتسامح، والتعايش، وتواجه بالرسمة تصوّرات وأفكارا يحاول الأصوليون تسويقها باعتبارها مُسلمات دينية، وبمجرد سخريتنا منها ومن فكرة احتكارهم للحديث باسم الدين، أو وضعهم لأي مخالف لهم في خصومة مع الدين نفسه، أو فسادهم المستتر باللحية، تنكشف وجوههم الحقيقية ويطالبون برأسك”.

وتعرّض الفنان المصري للمحاكمة أربع مرات بسبب رسوماته في عهد الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك بتهمة إهانة رئيس الجمهورية والسخرية من الحكومة، ثُم حوكم في عهد الرئيس الإخواني محمد مرسي سبع مرات بتهمة ازدراء الدين الإسلامي، لرسوماته الساخرة من قيادات جماعة الإخوان.

مواجهة مع السماء

أكّد عمرو سليم أن الحكم المدني مهما كانت درجة استبداده لا يمكن أن يضعك في مواجهة مباشرة مع الله، فكافة قضايا اتهامه بإهانة رئيس الجمهورية في عهد مبارك تم حفظها، لكنه فوجئ بتصوير كل رسومات ساخرة من الإخوان على أنها خروج عن الدين وازدراء له.

عمرو سليم: الإسلاميون غير قادرين على الإبداع، ولا يحتملون مواجهته بإبداع آخر
عمرو سليم: الإسلاميون غير قادرين على الإبداع، ولا يحتملون مواجهته بإبداع آخر

وحكى أنه رسم عام 2013 -عام حكم الإخوان- رجالا فاسدين لهم لحية وفوجئ باستدعائه واتهامه بازدراء الإسلام لأن اللحية رمز لسنة النبي، ورسم شخص فاسد بلحية يعني في تصوّر الإسلاميين سخرية من سنة النبي.

وأشار إلى أن الأصوليين لا يحتملون فن السخرية، ولا يمكنهم تقبله مهما حاولوا التظاهر برحابة الصدر ومهما ادعوا التسامح، ويضيف “إنهم يضعونك في مواجهة لا ترضاها مع الله أو مع النبي، لأنك كشفت زيفهم أو سخرت من صلاحهم الزائف”.

وأوضح الفنان المصري أن هناك كتائب إلكترونية مُجندة للهجوم على رسومات الكاريكاتير التي تفضح فساد الإخوان، والتيارات الإسلامية السياسية، ويقول “إنني أحمد الله أن أصبحت مصدر رزق لآلاف الشباب الذين لا يجدون وظيفة ويضطرون للعمل في الكتائب الإلكترونية للإخوان للهجوم على رسوماتي، ورسومات الفنانين العرب الموجعة”.

وأضاف “إن الإسلاميين بشكل عام غير قادرين على الإبداع، ولا يحتملون مواجهته بإبداع آخر، لذا يلجأون إلى تكفير المبدعين والرسامين وتصويرهم بأنهم خصوم للدين”. وما يقوله عمرو سليم يذكرنا بمعركة شهيرة شهدتها مصر في يونيو 1962 بعد أن انتقد الشيخ محمد الغزالي مساواة الميثاق الوطني المصري الرجل بالمرأة، فرسم الفنان صلاح جاهين عدة رسومات ساخرة بجريدة الأهرام رد بها على الشيخ، وفي إحداها صورة وهو يركب حصانا ويتحدث عن النساء بازدراء، ما دفع الشيخ للهجوم على الفنان في خطبة الجمعة ليخرج المصلون بعدها في مظاهرة عارمة نحو مبنى الأهرام، طالبوا فيها برأس جاهين. وأشار عمرو سليم، إلى أن المعركة الأولى في العالم العربي هي معركة التطرف، لأن هناك أناسا تريد ألاّ يفكر أحد، وإذا كان البعض يقول عبارة “أنا أفكّر إذا أنا موجود”، فإن هناك مَن يقول “أنا أكفّر إذا أنا موجود” ما يدعو لضرورة دعم المواهب الحقيقية وتشجيع المبدعين لمواجهة التطرف.

وهم التراجع

عمرو سليم يعتبر أن المعركة الأولى في العالم العربي هي معركة التطرف
عمرو سليم يعتبر أن المعركة الأولى في العالم العربي هي معركة التطرف

في تصوّر عمرو سليم، أن فن الكاريكاتير لم يتراجع لصالح قفشات وطرائف السوشيال ميديا التي يصفها بأنها عابرة، وغير معروف أصحابها، بينما يحمل الكاريكاتير توقيع الرسام نفسه الذي يكون مسؤولا عمّا يرسمه.

وقال إن تراجع اهتمام بعض الصحف بفن الكاريكاتير في غير محله، ويجب أن يكون هناك تفهم لقيمة هذا الفن باعتباره فنا مارقا، مشاغبا، ينتقد ويرفض ويشتبك مع كل ما يُعد قبحا أو فسادا، والرسام بطبيعته حر، ينطلق دون حدود واضحة معبرا عن رأيه بخطوط تحمل مبالغات وخفة ظل وجاذبية ومقدما رؤية ربما لا تستطيع المقالات التعبير عنها. ولفت إلى أن اتساع الصحافة الإلكترونية يتيح للكاريكاتير فرصا أكبر من النشر، ولا توجد تكاليف للطباعة والورق وهناك مساحات لا محدودة يمكن فيها نشر رسومات كاريكاتير عديدة تتناول السياسة والفن والرياضة والاقتصاد وقضايا المجتمع.

ورأى أن مستقبل فن الكاريكاتير في العالم العربي منتعش، لاتساع المشكلات والتحديات التي تثير الحاجة للسخرية وتدفع للمقاومة بالإبداع، وأضاف “لدينا نحن العرب على وجه الخصوص قضايا هامة وعديدة تستحق أن نرسم عنها”.

ويعرف عن عمرو سليم أن صحافيا فرنسيا سأله بعد سقوط حكم مبارك، إن كان حزينا على رحيله لأنه لن يجد هموما ومشكلات يمكنه السخرية منها، فقال إنه على استعداد أن يرسم عن الحب والجمال والزهور والأطفال، متصوّرا أن تحديات الفساد والمحسوبية والإهمال الحكومي والاستبداد إلى زوال. لكنه كان حالما، لأن مشكلات العالم العربي أزلية وستظل مادة للسخرية وساحة للتناول من قبل المبدعين إلى الأبد.

يعتقد عمرو سليم أن فن الكاريكاتير استفاد من تطوّر التكنولوجيا بشكل كبير جدا خلال السنوات الأخيرة، غير أن الأمر يختلف من رسام إلى آخر، وضرب مثلا بأنه كان يقوم بتلوين رسوماته بألوان الماء وكان ذلك يستغرق وقتا طويلا، لكنه الآن يقوم بالتلوين من خلال برنامج “فوتوشوب”.

وأوضح لـ”العرب”، أن بعض الرسامين يفضلون الاستغناء تماما عن الورق ويرسمون مباشرة على أجهزة الحاسب المحمولة، لكنه ما زال يرسم بيديه، لأن الرسم إلكترونيا له مشكلة تتمثل في عدم إمكانية عمل معارض رسومات يمكن بيعها كأصول فنية، لأن أي رسم يكون عبارة عن صورة فقط.

وأكّد أن الكاريكاتير استفاد من التكنولوجيا في سهولة الاطلاع على تطورات الرسامين في مختلف البلدان حول العالم، والتعرّف على اتجاهات مختلف المدارس، بعد أن كان الأمر يستلزم البحث عن مجلات الكاريكاتير الأجنبية. وذكر أنه لو تم منع رسمة في صحيفة ما تحت أي تصوّر حتى لا يشاهدها 60 ألف شخص متوقعين كجمهور لها، فإن الرسام يمكنه نشرها على مواقع التواصل لتصبح متاحة لأضعاف هذا العدد.

وإذا كان بعض رسامي الكاريكاتير يلجأون إلى ابتكار شخصيات محددة تتكرّر معهم في رسوماتهم مثل “حنظلة” لرسام الكاريكاتير الفلسطيني الراحل ناجي العلي، أو “فلاح الهنادوة” و”عبده مشتاق” للفنان المصري مصطفى حسين، فإن عمر سليم يرى أن البطل الحقيقي للرسم هو الفكرة ذاتها.

وقال إنه لا يفضل ابتكار شخصيات بعينها، لكنه يتذكّر أنه رسم في إحدى المرات كلبا يبول في جانب الرسم، وفوجئ باهتمام الجمهور به وإطلاق اسم “بوبي” عليه، ثم وجد مجموعة من جمهور فيسبوك باسم أصدقاء “بوبي” لدرجة أنه سئل خلال إحدى محاكماته عمّن يقصده بهذا الكلب. وأضاف أنه يستيقظ مبكرا في الفجر كل يوم ليتابع الأخبار العالمية والإقليمية بحثا عن فكرة تستحق السخرية قبل أن يتفرّغ تماما للرسم والتلوين، ويتابع بشكل دائم عددا من مبدعي الكاريكاتير في العالم العربي، ويحمل إعجابا شديدا لبعضهم.

17