استفاقة متأخرة.. جزيرة الورّاق ملك لأهلها أم للدولة

وقعت مؤخرا اشتباكات بين قوات الشرطة المصرية وسكان جزيرة الورّاق في قلب العاصمة القاهرة بسبب حملة حكومية ضد “المنازل والمباني المخالفة” بينما يتهم السكان الحكومة بالتخطيط لطردهم من مساكنهم وأراضيهم تمهيدا لاستغلال الجزيرة الواقعة في قلب النيل بين منطقتي شبرا الخيمة وإمبابة وبيعها للمستثمرين. ولا يملك أغلب سكان الجزيرة وثائق ملكية لعقاراتهم أو أراضيهم حيث شغلوها على مرّ عقود بوضع اليد في ظل صمت حكومي ساعد على ترسيخ السكان لأقدامهم في الجزيرة ويعقّد اليوم الأمر على الحكومة التي تبحث عن استرداد أملاكها.
الخميس 2017/07/27
زاوية النظر ضيقة

جزيرة الورّاق (مصر) - تشير هالة جمال بأسى إلى أنقاض وحطام أثاث في إحدى نواحي جزيرة الوراق غرب القاهرة، وهي كل ما تبقى من منزل حضنها مع عائلتها وأزيل في إطار حملة تنفذها السلطات المصرية لإزالة التعديات على أملاك الدولة.

تقول هالة (31 عاما) في تصريحات نقلتها عنها وكالة فرانس برس “هذا كان بيتي… ولديّ جميع الأوراق والأختام الحكومية التي تؤكد ملكية زوجي للمنزل، فما الداعي لهذا العدوان الذي شنته الحكومة على بسطاء مثلنا؟”.

تعكس الصورة التي نقلتها الوكالة الفرنسية بخصوص حالة هالة وضعية الكثير من أهالي جزيرة الورّاق على خلفية الحملة التي تقودها الحكومة المصرية لاستعادة الأراضي المملوكة للدولة والتي تم الاستحواذ عليها بطرق غير شرعية من قبل مافيا الأراضي المنهوبة.

ودخلت هذه القضية في منعرجات وشهدت تصعيدا خطيرا، وشكلت مادة دسمة لمواقع التواصل الاجتماعي والجهات المعارضة للتوجهات السياسية المصرية في الفترة الأخيرة للّعب على أوتارها بالتركيز على جانب من القضية دون آخر.

وتداول مستخدمو مواقع التواصل الاجتماعي صورا لتصميمات هندسية لتطوير جزيرة الورّاق لأغراض استثمارية وتجارية يعود تاريخها إلى عام 2013 ونفذت بواسطة الشركة الهندسية الإماراتية-السنغافورية “أر إس بي”.

وليست أزمة جزيرة الورّاق وليدة اللحظة، لا تمتد إلى سنوات طويلة ماضية، وكانت مصدر جدل خلال مختلف الحكومات المتعاقبة.

كما أنها ليست ظاهرة فريدة بين جزر نهر النيل، إذ قامت السلطات بحملات مماثلة آخرها نهاية عام 2012 عندما طالب الجيش المصري أهالي جزيرة القرصاية بإخلائها باعتبارها منطقة عسكرية، الأمر الذي رفضه السكان بشدة ما أدى إلى اندلاع مواجهات. مع ذلك لم تأخذ تلك القضية أبعادا كتلك التي أخذتها التطورات على جزيرة الورّاق.

إنهاء حالة التعدي على أملاك الدولة..

الجزر النيلية

فجرت أحداث جزيرة الورّاق في القاهرة قضية في غاية الحساسية تتعلق بالأهمية الحيوية التي تحتلها الجزر النيلية الواقعة في قلب القاهرة، فالاشتباكات التي وقعت بين الأهالي وقوات الأمن التي حضرت لإخلاء الجزيرة نكأت الكثير من الجروح وفجّرت بركانا من الغضب ظل مختبئا خلف البيروقراطية التي عطلت استثمار بعض الجزر الواقعة في عرض نهر النيل بالقاهرة وغيرها.

وتعتبر الجزر النيلية شريان الحياة للمدن والقرى التي تقع على مقربة منها على ضفتي نهر النيل، في ظل بيئة تعج بالعديد من المشكلات الاقتصادية والبيئية والسكانية وتآكل مساحة الرقعة الزراعية بسبب الزحف العمراني وضعف إنتاجيتها، كما يمكن أن تكون سلة الغذاء لمدن المنطقة المحيطة بتلك الجزر.

جذبت تلك الجزر الأغنياء فباتت فردوسهم للحصول على سويعات استجمام بين شاطئ النهر ووسط طبيعة خلابة خضراء، أما الفقراء فاضطرتهم الحاجة والعوز إلى أن يتخذوا منها مأوى، لتصبح تلك الجزر حاضنة اجتماعية لطبقات متباينة من المصريين، أغلبهم كانوا ضحايا مافيا الأراضي المنهوبة.

وذكر تقرير رسمي لمجلس الوزراء المصري في 24 يوليو أنّ “جزيرة الورّاق التي تبلغ مساحتها ألف فدان وكانت أرضا زراعية، تم التعدي عليها منذ أكثر من 15 سنة وتحويلها لمنطقة سكنية عشوائية”. وأحصى التقرير حوالي 700 حالة تعدّ في الجزيرة بالإضافة إلى حالات تعدّ أخرى لم يتم حصرها بعد.

ومع أن جزر النيل وفقا للقانون هي “محمية طبيعية ” إلا أنها كانت محمية في الدفاتر فقط. ولم يهتم المسؤولون في السابق بها بل تركوها حتى صارت صيدا سهلا للباحثين عن الثراء السريع.

وعندما تنبهت الحكومة مؤخرا لذلك كانت الكثير من أراضي الدولة قد تم الاستحواذ عليها وشيدت فوقها مساكن وعمارات ومحلات، أغلب سكانها من المصريين البسطاء، الأمر الذي يشكل عائقا للحكومة الراغبة في استرجاع أراضيها واستثمارها للدفع بعجلة الاقتصاد كما يضع سكان الجزر بين مطرقة تنفيذ القانون وسندان البقاء بلا مأوى. وكانت الحكومة أوضحت أن “من يمتلك عقودا وأوراقا رسمية تثبت ملكية الأرض لن يتم التعرض له”.

ويبلغ إجمالي مساحة أراضي الدولة المتعدى عليها في جميع محافظات مصر 1.9 مليون فدان في النطاق الزراعي، بالإضافة إلى 168 مليون متر مربع في نطاق المباني.

محميات تفتقد الحماية

تتنوع الجزر النيلية بين جزر بيئية في الشمال وجزر زراعية في جنوب الدلتا وشمال الوادي، بالإضافة إلى الجزر السياحية في الأقصر وأسوان.

وهناك جزر ثابتة لا تتعرض للغرق مثل جزيرة الروضة في المنيل (وسط القاهرة)، وجزر غاطسة وجزر شبه غاطسة، وهذان النوعان ينتشران في المسافة بين نجع حمادي وأسيوط (جنوب مصر) وبين القاهرة وأسيوط.

اشتباكات بين أهالي وقوات الشرطة بجزيرة الوراق القاهرية تنكأ الكثير من الجروح الاقتصادية والاجتماعية والأمنية

وأوضح شادي صلاح، الباحث في شؤون البيئة، أن الجزر النيلية تتنوّع طبقا لطبيعتها ونوعية حياة السكان فيها، فهناك جزر القاهرة الكبرى الأربع وهي جزيرة الزمالك الأشهر والأرقى في مصر، أما جزيرة الورّاق فهي الأفقر، وجزيرة منيل الروضة صاحبة مقياس النيل الشهير(كان فيها مقياس النيل الذي أمر ببنائه الخليفة الأموي سليمان بن عبدالملك سنة 715 م/97 هـ)، وجزيرة الذهب، وفي الجنوب تنتشر جزر الوادي في الصعيد، أقلها في قنا وأسوان وأكثرها في محافظة المنيا.

وأشار الباحث إلى أن جزر النيل تقع في 16 محافظة، وأن سجلات الحكومة الرسمية قدرت عددها بـ144 جزيرة تبلغ مساحتها حوالي 37150 فدانا (ما يعادل 160 كيلومترا مربعا) من أجود الأراضي الزراعية وأخصبها، منها 95 جزيرة توجد في المنطقة ما بين أسوان جنوبا إلى القناطر شمالا، في حين توجد 19 جزيرة في طول فرع دمياط، أما فرع رشيد فتوجد به 30 جزيرة.

لكن مصادر أكدت لـ”العرب” أنه لا توجد أيّ جهة في البلاد تستطيع تحديد الرقم الصحيح لعدد الجزر النيلية، وتضاربت الإحصاءات تبعا للجهة المسؤولة عنها، فوزارة الموارد المائية ذكرت أنها 197 جزيرة، وقدر معهد بحوث الأراضي والمياه عددها بحوالي 209، في حين أن الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء (جهة حكومية) قدر عدد الجزر بحوالي 163 جزيرة، بينما أوضح معهد بحوث النيل أنها 128.

وقال متخصصون في البيئة أن اختلاف العدد بين أكثر من جهة يعود لاختلاف منسوب مياه النيل، وبالتالي أحيانا تكون الجزر مغمورة بالمياه ومن الطبيعي أن تظهر وتختفي. وصدر قرار من رئيس الوزراء الأسبق كمال الجنزوري في 1998 بإعلان 144 جزيرة نيلية محميات طبيعية مما يمنع أيّ أعمال بناء عليها.

وكان تسجيلها كمحميات طبيعية لتحقيق عدة أهداف أهمها المساهمة في ترشيد استخدام المبيدات الكيميائية للإقلال من الملوثات التي يتم صرفها على مياه نهر النيل، إضافة إلى المحافظة على الكائنات البرية والنباتات الفريدة من خطر التدهور.

الاهتمام بالزراعة وتنمية الجزيرة

من أجل تحقيق هذه الأهداف حظر القانون 102 لسنة 1983 في مادته الثانية القيام بأعمال أو تصرفات أو أنشطة أو إجراءات من شأنها تدمير أو إتلاف أو تدهور البيئة الطبيعية، أو الإضرار بالحياة البرية أو البحرية أو النباتية أو المساس بمستواها الجمالي بمنطقة المحمية.

وتفتقد تلك الجزر إلى منظومة الريّ والصرف الصحي الآمن، واضطر سكان بعض الجزر إلى اللجوء إلى المستودعات المدفونة في باطن الأرض، ما أضر بالتربة الزراعية وانتقل ضمنيا إلى المياه الجوفية، ومنها إلى مياه الطلمبات التي هي المصدر الرئيسي للشرب، وأدى ذلك إلى تفشّي الأمراض الكلوية والكبدية بين قاطني الجزر.

وزاد الأمر سوءا أن السكان أفرغوا محتويات الجزيرة من النباتات ولم يتبق من معالم المكان سوى أعمدة حديدية لإقامة الصوب، وهبطوا بمستوى الأرض من أجل مدّ طريق بين الأرض المملوكة لهم وبين تلك التي استولوا عليها، وادعى البعض أن الأرض ملك لآبائهم وأنهم ورثوها منهم، في حين أن المعروف عن بعض الجزر أنها طرح نهر ومملوكة بالكامل للدولة.

وظهرت منذ سنوات خطوات لتقنين أوضاع المخالفين والمغتصبين لأراضي الجزر النيلية بما تمت تسميته وقتها بالحصر والربط (يتم حصر كل الموجودين في جزر النيل، وربط أي تخصيص الأراضي التي في حوزتهم ليفعلوا فيها ما يشاؤون طوال حياتهم، مقابل سداد مبالغ مالية سنوية)، الأمر الذي فتح نيران جهنم على جزر النيل فصارت مطمعا للكثيرين، وهناك من رفض حتى الحصر والربط كي لا يسدد للدولة أيّ مبالغ مستحقة.

ويرى مختار المحامي أن السبب الأساسي لتفاقم المشاكل داخل تلك الجزر عدم وجود هيئة أو جهة واحدة مسؤولة عنها، حيث تتوزع على خمس جهات؛ الزراعة والريّ والموارد المائية والبيئة والإسكان والإدارة المحلية. بالإضافة إلى أن الدولة سمحت بالسكن في الجزر النيلية بطريقة جعلت الوضع القانوني للسكان غير واضح، ولا يمكن إثبات أيّ من الطرفين على حق أو على خطأ من الناحية القانونية.

.وقعت منذ ما يقرب من 12 عاما مواجهات عديدة بين الحكومة وسكان عدة جزر أهمها “الذهب” و”القرصاية” و”الورّاق” في قلب القاهرة، حيث كانت الدولة تعتزم إقامة مشاريع استثمارية عليها.

نزاع طويل

كانت الحكومة المصرية أعلنت في 2008، عن مخطط استراتيجي لتطوير القاهرة الكبرى (القاهرة 2050)، ووفقا لذلك المخطط كان سيتم تحويل بعض الجزر ومنها جزيرة الذهب إلى منطقة استثمارات، وهو المشروع الذي ارتبط باسم جمال مبارك (نجل الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك)، لكن مظاهرات الأهالي وغضبهم الشديد حالا دون ذلك.

ورأى البعض من المراقبين للوضع حينذاك أن تطوير المناطق المأهولة يجب أن يتم بالشراكة مع الأهالي، وليس عن طريق طردهم خارجها، وبالفعل حكمت المحكمة الإدارية العليا في 2010 لصالح بقاء الأهالي الذين رفعوا دعاوى ضد طردهم.

لكن المعركة تجددت مرة أخرى في منتصف الشهر الجاري، وما بين حق الدولة في الحفاظ على النيل وإزالة التعديات عليه وبين حق المواطنين في الاستقرار والأمان وقعت اشتباكات بـ”جزيرة الورّاق” بين قوات الأمن والأهالي احتجاجًا على تنفيذ الشرطة لقرارات الإزالة، وهو المسعى الذي باء بالفشل بعد مقتل أحد سكان الجزيرة.

الجزيرة تعاني من الإهمال منذ سنوات طويلة فأصبحت منطقة عشوائية يقيم فيها عشرات الآلاف من المصريين الفقراء بنظام وضع اليد

وقامت “العرب” بجولة قصيرة بمعدية خشبية متهالكة تحمل العشرات من الأفراد بين ضفتي النيل للوصول إلى جزيرة الورّاق من كورنيش النيل. ولم تكن المعدية سوى مركب قديم ومتهالك وضع بداخله حجر كبير من حجارة الأرصفة لضبط اتزانه في المياه، بمجرد ركوبه تشعر أنه سينزلق إلى قاع النهر.

الطرق كثيرة وغير معبدة، لا تخرج عن كونها مدقات تسير فيها عربات التوك توك والدواب، على جانبيها منازل طينية بسيطة، يسقّفها السعف، تتخللها أدوات منزلية بدائية (قلة- زير- قدر- خيش- حصير- مواقد فخارية)، وتحيطها المياه من كافة الاتجاهات، حيوانات وطيور ترعى وسط الزراعات، كانت هي صور الحياة داخل الجزيرة.

وتحدثت “العرب “مع مايسة أشرف (ربة منزل) التي أكدت أنها تعيش في هذه الجزيرة منذ ما يزيد عن 30 عاما ولا تعرف مكانا آخر غيرها، وبالرغم من المعاناة اليومية التي تجدها إلا أنها لا تستطيع تركها.

وأوضحت أن سكان الجزيرة يعانون من عدم وجود صرف صحي ومياه صالحة للشرب، ويشترون المياه يوميا للطبخ والشرب، وبالرغم من أن الجزيرة تضم محطة لتنقية مياه الشرب إلا أن المياه الخارجة من المحطة ملوثة ومالحة الطعم ولا تصلح للاستهلاك البشري.

وأكدت أن سكان الجزيرة لا يرفضون التطوير لكن دون ظلم أو التعدي على حقهم، فلا يمكن بين ليلة وضحاها أن يتركوا منازلهم دون توفير البديل، فالأراضي ملك لأهل الجزيرة بناء على سندات الملكية، عدا 60 فدانا فقط ملك للدولة، منها 30 فدانًا ملك لوزارة الأوقاف ويتم تأجيرها للمزارعين من أهل الجزيرة.

وأوضح أبومحمد (مزارع) أن القاطنين بالجزيرة ليسوا ضد توجيهات الحكومة، لكنهم يتساءلون إذا خرجوا من الجزيرة أين سيذهبون؟ وسكان الجزيرة يعلمون أن الجزيرة محمية طبيعية بموجب القانون، لكن كيف تتم محاسبتهم على قانون صادر بعد سكنهم الجزيرة بمئات السنين، فالجزيرة يسكنها ما لا يقل عن 118 ألف نسمة.

ويتساءل المزارع لماذا لم تتجه أعين الحكومة لفيلات وقصور رجال الأعمال. وأشار أبومحمد إلى أن أعضاء مجلس النواب عن دائرة الورّاق حضروا أكثر من مرة للقرية بعد خطاب الرئيس السيسي عن الجزيرة كهدف قادم لحملة إزالة التعديات على أراض مملوكة للدولة لإقناع الأهالي بإخلاء الجزيرة، لكنهم لم يقتنعوا خاصة أنه ليس هناك بديل يطرحونه.

وقال حاتم عاشور الأستاذ في كلية الزراعة جامعة عين شمس بالقاهرة إن التعديات على الجزر أفقدت مصر الكثير من الأبحاث العلمية في مجال الزراعة والتي تتم على مدار سنوات بخلاف المحاصيل التي تنتجها الصوب وتم الاستيلاء عليها، فهناك نباتات مهمّة في تلك الجُزُر لها فوائد اقتصادية كبيرة ولا بد من أن تصنّف وتتمّ حمايتها.

وتساءل لماذا أملاك الدولة مستباحة ومن المستفيد من بقاء الحال على ما هو عليه؟ وأكد لـ”العرب” أن تجاهل الجزر المصرية يعد إهدارا للمال العام ويمكنها أن تكون إضافة للاقتصاد المصري، وطالب بضرورة الاهتمام بالجزر النيلية باعتبارها مشروعا قوميا لا يقلّ في أهميته عن قناة السويس.

وأكد أن الجُزُر لها أهمية كبيرة في التنوّع البيولوجي، وبعضها من المحميّات الطبيعية وتقع في مسار هجرة الطيور وفيها مصادر نباتية وحيوانية فريدة ستنقرض إن لم تنتبه الدولة وتتخذ إجراءات رادعة لحمايتها.

كاتبة مصرية

7