استرداد العقل في سبيل التنوير

لم يعد هناك شك بأن لحظة التنوير العربي باتت من الماضي، عندما غلّب العرب الغريزة على العقل، وبالتالي فإن اللحظة الحاضرة باتت تتطلب من المثقفين العرب العودة إلى مهمتهم الأصلية في إضاءة المصابيح على سبيل تغليب العقل المضيء على الغريزة العمياء، فالتنوير في سياقه الدلالي إنما يعني منح العقل أولوية في إدراك الوجود وتحريك عجلة الإبداع البشري، والنظر إلى العقل بوصفه مصدر النور الذي يهتدي به كل من الفرد والجماعة لصياغة العالم، وهو في حالة تحرر من كل أشكال الوصاية. وقد اصطدم دعاة التنوير عبر العصور برجال الدين، الذين حاولوا ربط كل ما يدور في الكون بالغيبيات، بصورة جعلت التاريخ البشري تتخلله عصور طويلة من الظلام غاب فيها العقل وسادت فيها فلسفة غيبية بحتة، كان فيها العلماء سحرة والعقلاء زنادقة.
كان التنويريون ينظرون إلى أنفسهم كطليعة مجتمع ناهض يسعى إلى تحقيق التقدم، يطلبون من رجال الدين أن يكونوا عونا لهم على تحقيق النهضة، بتأثيرهم وما لديهم من معارف تأويلية، والدعوة إلى فتح باب الاجتهاد، وتأكيد أهمية العقل وإطلاق سراحه.
ولكن مع ازدياد الحركات الأصولية انتشارا خلال السنوات الأخيرة في العالم العربي، وعلو صوتها في محاولة للعب دور في السياسة الإقليمية بطرق مختلفة، كاستغلال ثورات الشعوب وتحويلها إلى مسارات تخدم قضيتهم، ذهبت قضية التنوير إلى طريق الانتكاسة رغم محاولات بعض المثقفين قليلي الخبرة من أمثال إسلام بحيري وغيره علاجها، ولكن بطرق وأساليب نفرت العامة منهم لهجومهم على أفكار راسخة في ذهنهم، وأصبح من الصعب علاجها بالهجوم، فدخلت قضية التنوير دائرة الإشكاليات الجدلية صعبة الحل.
وهكذا، أصبح السبيل الوحيد لإقناع العامة بأهمية التنوير وإنقاذه من الانتكاسة، وحتى يكتمل تراكمه، هو توضيح ذلك التلازم الوثيق بين الدين والعقل. ففي ضوء التعاليم الدينية نجد أن الفكر الديني أصبح يشق لنفسه طريقا واضحا في سبيل تحقيق التوازن بين العقل والدين، فالعقل كالأساس والدين كالبناء، ولا يمكن الاستغناء بأحدهما دون الآخر، فلا نفع لأساس دون بناء، ولا ثبات لبناء دون أساس، ومن هنا يقول أبوحامد الغزالي في مؤلفه “إحياء علوم الدين” إن الداعي إلى محض التقليد مع عزل العقل بالكلية جاهل، والمكتفي بمجرد العقل عن أنوار القرآن والسنة مغرور.
ويرى المفكر الإسلامي الدكتور محمود حمدي زقزوق أنه لا يجوز من وجهة النظر الدينية أن توضع المسألة على أساس أن هناك خصومة بين الدين والعقل، وأن على الإنسان أن يختار بينهما، فالحقيقة أنهما عنصران متكاملان لا يتناقضان، وأن الإنسان في حاجة إليهما معا، والدين في العموم لا يمنع العقل البشري من التفلسف، ولا يحجر على حقه في الفهم والتفكير، وإنما يطلق له العنان في ارتياد آفاق الكون ملاحظة واستنباطا، ويدفعه إلى ذلك دفعا. ولقد برع زقزوق في بيان أن العقل هو مناط إنسانية الإنسان ومعناه وجوهره، فإذا عطل بالجهل والغفلة، فإن ذلك يعني إلغاء الإنسانية، والهبوط بالإنسان إلى مرتبة أقل من مرتبة الحيوان.
كما يؤكد الشيخ محمد عبده في مؤلفه “رسالة التوحيد” أن تآخي العقل والدين ذكر على لسان نبي مرسل. وأن من قضايا الدين ما لا يمكن الاعتقاد به إلا عن طريق العقل، كالعلم بوجود الله وبقدرته على إرسال الرسل، وأن الدين إذا جاء بشيء قد يعلو الفهم، فلا يمكن أن يأتي بما يستحيل عند العقل.
على أي حال، وعلى الرغم من الآراء العاقلة التي تضم العقل والدين في بوتقة واحدة لينصهرا سويا وينيرا العقل العربي، إلا أن عالمنا العربي يخوض الآن أشرس معاركه مع حزمة من القوى المحافظة والمتطرفة والمستبدة في سبيل تفكيك كل التصورات القديمة التي تسيطر على العقل الجمعي، والتي تحاول فصل الدين عن العقل، وتحويله إلى غريزة عمياء، وهي معارك مفتوحة مع تلك التيارات التي لا تزال قوية وقادرة، على الرغم من الحداثة التي أصبحت تحاصرها من كل الجهات. وأصبحنا كما ذكر الدكتور جابر عصفور في كتابة “محنة التنوير” بدلا من أن نمضي إلى ما بعد التنوير، نبذل قصارى جهدنا في التمسك بما بقى منه قبل أن يضيع في ظلمة التقليد.