استدارة قطرية نحو الوساطات بعد سنوات من تغذية التوتّرات في الإقليم

تحوّل قطر بشكل ملحوظ من التورّط في الصراعات الإقليمية وتأجيجها إلى تركيز الجهود على بذل الوساطات لتهدئة الخلافات بين الأفرقاء المختلفين والمتصارعين، بقدر ما يمثّل امتدادا لميزة أساسية في السياسة القطرية تتمثّل في البحث الدائم عن دور إقليمي ودولي يعادل الوزن المالي الكبير لتلك الدولة الغنية بموارد الغاز، فإنّه يكشف في الآن نفسه عن رغبة قطرية في التراجع عن التوجه الصّدامي بعد أن انتهى إلى طريق مسدود في كل الدول التي تدخلت فيها الدوحة من سوريا إلى ليبيا إلى مصر وغيرها.
الدوحة - يلقي الحراك الدبلوماسي القطري الكثيف الضوء على اهتمام قطر المتزايد بلعب دور الوسيط في إنهاء الخلافات وتبريد الصراعات في المنطقة وذلك بعد سنوات طويلة من انغماس الدوحة بقوة في بؤر التوتّر في المنطقة وتغذية الخلافات السياسية والصراعات المسلّحة.
وكانت سلطنة عمان قد تخصّصت لفترة طويلة في القيام بالوساطات الصعبة والمفاجئة في أحيان كثيرة بفضل ميزة الحياد التي طبعت سياساتها والتي تفتقر إليها قطر ما يجعل نجاح ما تسعى إليه من وساطات مهدّدا بالفشل.
واتّجه القسم الأهمّ من الحراك القطري صوب المملكة العربية السعودية الأمر الذي رأى فيه مراقبون مؤشّرا على قيام الدّوحة بدور في ما يجري من تحوّل طفيف في طبيعة العلاقة بين المملكة وطهران من التوتّر إلى التهدئة النسبية واستطلاع فرص الحوار بين الجانبين، وكذلك في ما حدث بالفعل من منعطف في العلاقة بين السعودية وتركيا المتّجهتين بوضوح نحو تجاوز الخلافات والتراشق السياسي والإعلامي الذي تبادلتاه على مدى السنوات الأخيرة إلى مرحلة جديدة من والتواصل وربما التنسيق والتعاون في عدّة مجالات، بحسب ما ورد من تصريحات تركية بمناسبة زيارة وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو الأخيرة إلى المملكة.
وبحسب متابعين للشأن الخليجي فإنّ لجوء قطر إلى لعبة الوساطات يلبّي من ناحية منزعا رئيسيا في سياستها يتمثّل في البحث الدائم عن دور إقليمي وحتّى دولي يجعل لها وزنا سياسيا يوازي وزنها المالي الكبير المتأتّي من ثروتها الضخمة من الغاز الطبيعي.
كما يتيح لها فرصة التراجع والخروج من صراعات ملتهبة في المنطقة كانت قد تورّطت فيها بقوّة وساهمت في تأجيجها، على غرار دورها في الملف السوري واليمني والليبي، إضافة إلى الدور الذي حاولت لعبه في مصر من خلال دعمها الكبير لجماعة الإخوان المسلمين.
وقال دبلوماسي خليجي سبق له العمل في قطر إنّ الأخيرة من خلال انخراطها في جهود تهدئة الصراعات في الإقليم “تعمل على اكتساب سمعة الإطفائي بعد أن قامت لسنوات طويلة بدور مُشعل الحرائق”.
وقال وزير الخارجية القطري الشيخ محمد بن عبدالرحمن آل ثاني إنّ بلاده “لن تَأْلُوَ جهدا في تحقيق السلام والاستقرار وبناء الجسور عن طريق الوساطة وتفعيل القنوات الدبلوماسية وتقريب وجهات النظر، مما يعزز السلم والاستقرار الدوليين”.
التحول في علاقة السعودية مع تركيا وإيران وليد حسابات ومصالح خالصة للمملكة بغض النظر عن الدور القطري
وكان الوزير القطري يتحدّث لقناة الجزيرة القطرية معلّقا على عودة العلاقات مؤخّرا بين كينيا والصومال، قائلا “إذا كانت هناك حاجة للتدخل فسنرحب باستمرار دعم هذه الجهود”.
ويرى المراقبون إنّ الثروة المادية هي الوسيلة الأهمّ التي تستخدمها قطر في البحث عن الدور الإقليمي والدولي المنشود. وبحسب هؤلاء فإنّ العامل المادي رئيسي في العلاقة المتينة التي أقامتها الدوحة مع كلّ من طهران وأنقرة والتي قد تتيح لها القيام بوساطة بين كل من العاصمتين من جهة، والرياض من جهة مقابلة.
وبغض النظر عن علاقات التعاون الاقتصادي والتجاري التي أقامتها قطر مع إيران وتركيا خلال سنوات مقاطعتها من قبل أربع دول عربية بينها السعودية، فقد بذل القطريون مساعدات مالية مباشرة للإيرانيين والأتراك للحفاظ على العلاقات معهم وتطويرها عندما كانت قطر تعاني العزلة جرّاء المقاطعة المذكورة.
ومن المساعدات المالية القطرية المعلن عنها لإيران هبة بمبلغ مبلغ ثلاثة مليارات دولار تم تقديمها خلال زيارة أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني لطهران في يناير 2020.
أما تركيا التي عانت خلال السنوات الأخيرة أزمات اقتصادية ومالية متلاحقة فقد استفادت من المال القطري بعدة طرق من بينها استيراد قطر للكثير من حاجياتها من السوق التركية. أما أوضح مساعدة مباشرة تلقتّها أنقرة من الدوحة فتمثّلت في ضخّ قطر استثمارات مباشرة بقيمة 15 مليار دولار في الاقتصاد التركي بهدف إنقاذ الليرة التركية من الانهيار عندما كانت تواجه تراجعا حادا في قيمتها.
وفي ما بدا أنّها عملية نقل رسائل بين إيران والسعودية، استقبلت الدوحة في الخامس والعشرين من أبريل الماضي وزير الخارجية الإيراني محمّد جواد ظريف الذي بحث مع نظيره القطري “سبل خفض التوتر في المنطقة وتعزيز أمنها واستقرارها عبر الحوار”.
وبفارق زمني عن زيارة الوزير الإيراني لم يتعدّ اليومين قام وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان بزيارة مماثلة إلى قطر ربطها مراقبون بما يجري من جهود لإطلاق مسار من الحوار بين طهران والرياض، معتبرين أنّ الدوحة مرشّحة إلى جانب بغداد ومسقط للقيام بوساطة في هذا الشأن.
وتمّ الإثنين تتويج الحراك السياسي والدبلوماسي القطري بزيارة قام بها أمير قطر إلى السعودية حيث كانت له مباحثات مع ولي العهد السعودي الأمير محمّد بن سلمان شملت “مناقشة التطورات على الساحتين الإقليمية والدولية والجهود المبذولة بشأنها”.
واكتسبت الزيارة رمزية خاصة في سياق جهود الوساطة التي تبذلها قطر لمصالحة السعودية مع تركيا عندما تزامنت مع زيارة مماثلة قام بها وزير الخارجية التركي إلى المملكة.
ويميل مراقبون إلى اعتبار ما يجري من تحول في علاقة السعودية بتركيا ومن بوادر انفراج في علاقة المملكة بإيران إلى مصالح وحسابات سعودية خالصة أكثر مما هو وليد جهود قطرية وإن كانوا لا يستبعدون قيام قطر بدور محدود في ذلك.