استحالة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي
رغم الصخب الواسع بشأن الاستفتاء المرتقب حول بقاء أو خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، إلا أن النظرة المتفحصة للارقام والجبهات، تؤكد استحالة خروجها من الاتحاد الأوروبي في استفتاء 23 يونيو المقبل.
وقبل الدخول في التحذيرات والتهديدات والسيناريوهات الكارثية، ينبغي الإشارة إلى أن استفتاء أسكتلندا على الاستقلال عن بريطانيا في سبتمبر 2014، كان يملك فرصة تعادل أضعاف فرص خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.
لكن المصالح الاقتصادية والشركات الكبرى من المصارف إلى شركات النفط أثارت الرعب في نفوس الأسكتلنديين وأجبرتهم على رفض الاستقلال. وهي تبذل جهدا مضاعفا هذه المرة، وسوف تصور للبريطانيين أن الخروج من التكتل الأوروبي سيكون “أم الكوارث” جميعا.
سبب القلق يكمن في أن خروج بريطانيا يمكن أن يوجه ضربة شديدة للاقتصاد البريطاني، وضربة مماثلة إلى مستقبل بقاء التكتل الأوروبي وأخرى إلى آفاق نمو الاقتصاد العالمي.
أما الخارطة السياسية البريطانية، فيكفي أن نشير إلى أن الحكومة والمعارضة متحدة في رفض الخروج، باستثناء أقلية صغيرة في حزب المحافظين الحاكم والنائب الوحيد لحزب الاستقلال، وجميعهم لا يتجاوز 65 نائبا من مجموع 650 نائبا.
ويمكن القول إن أغلبية مطلقة تقارب 100 بالمئة من سكان أسكتلندا وأيرلندا الشمالية وويلز، يؤيدون بقاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبي، وهؤلاء تزيد نسبتهم على 17 بالمئة من سكان البلاد.
وينطبق ذلك أيضا على الأقليات الأجنبية من الأفارقة والكاريبيين والآسيويين ومن بلدان الشرق الأوسط وأنحاء العالم الأخرى، الذين تصل نسبتهم إلى 10 بالمئة.
بل إن الحزب القومي الأسكتلندي جدد مطالبته بإجراء استفتاء جديد على الاستقلال، بمناسبة تصاعد حمى الحديث عن الاستفتاء، وسيكون قادرا على انتزاعه بسهولة هذه المرة وسيكون الاستقلال عن بريطانيا حتميا، إذا خرجت من الاتحاد الأوروبي، وهو خط أحمر يثير الفزع في بريطانيا ويمكن أن يؤدي إلى نهاية الاتحاد البريطاني.
ويمكننا إضافة نسبة كبيرة أخرى من الأوروبيين المقيمين في بريطانيا، الذين يحق لهم التصويت في الاستفتاء، أي أن موقف ما يزيد على 35 بالمئة، يكاد يكون محسوما في رفض الخروج.
بل إن موقف ما يعادل 10 إلى 15 بالمئة من البريطانيين المقيمين في أوروبا أو لهم صلات عمل فيها، سيصوتون أيضا للبقاء، علما أن بريطانيا هي البلد الأوروبي الوحيد، الذي لديه من المقيمين في أوروبا أضعاف عدد الأوروبيين الذين يعملون فيها.
وبذلك تصل نسبة الرافضين للخروج إلى حدود نصف المشاركين في الاستفتاء، قبل إضافة ما يصل إلى يقل أو يزيد على نصف سكان إنكلترا، وكثير منهم يعملون في شركات تصدير ومؤسسات ترتبط أعمالها بالاتحاد الأوروبي.
سبب كل ذلك الرعب يكمن في أن خروج بريطانيا من التكتل الأوروبي سيؤدي إلى زلزال واسع لحسم الوضع القانوني وحقوق العمل للبريطانيين المقيمين في بلدان الاتحاد الأوروبي وملايين الأوروبيين العاملين في جميع المؤسسات البريطانية من المصارف إلى المصانع وصولا إلى الاستثمارات الأجنبية فيها.
ونأتي الآن الى تفاصيل السيناريوهات الكارثية، فالمصارف والمؤسسات العملاقة مثل أتش.أس.بي.سي ودويتشه بنك وشركات صناعة السيارات الأجنبية، التي تملك جميع الماركات البريطانية مثل ميني ورولس رويس وفوكسهول وجاغوار ولاند روفر، لوحت بنقل مقراتها ومصانعها من بريطانيا في حال مغادرة الاتحاد الأوروبي.
وذهبت وكالة ستاندرد أن بورز إلى أن التصنيف الائتماني لبريطانيا قد ينحدر بشدة. بل إنها أرسلت إنذارا شديد اللهجة من خلال خفض تصنيف الديون السيادية البريطانية.
ونشرت بي.أم.دبليو وفوكسهول وتويوتا رسالة، الأسبوع الماضي، إلى جانب 36 من رؤساء شركات كبرى مدرجة على مؤشر فوتسي 100، رسالة تناشد البريطانيين على البقاء في الاتحاد الأوروبي للحفاظ على الوظائف وتشجيع الاستثمار.
وكشفت هيئة الإذاعة البريطانية أن بي.أم دبليو أرسلت خطابا تنبّه فيه طاقم عملها في شركة رولز رويس في بريطانيا من المخاطر التي ستواجهها العلامة التجارية في حال مغادرة المملكة المتحدة للاتحاد الأوروبي.
ولم تقتصر التحذيرات على الحكومة البريطانية وأحزاب المعارضة من حزب العمال إلى الديمقراطيين الأحرار وصولا إلى الأحزاب الصغيرة، بل امتدت إلى معظم البلدان الأوروبية من ألمانيا وفرنسا إلى أصغر البلدان الأوروبية. بل إن التحذيرات جاءت أيضا من الصين واليابان على غير العادة، رغم أن تلك البلدان حذرة من التدخل في الشؤون الداخلية للبلدان الأخرى.
ووصل الأمر إلى بيان جماعي من مجموعة العشرين التي تمثل معظم الاقتصاد العالمي، التي تدخلت بطريقة غير تقليدية وخالية من التقاليد الدبلوماسية، لتحذر من “الصدمة التي يمكن أن يحدثها خروج محتمل لبريطانيا من الاتحاد الأوروبي” على مجمل الاقتصاد العالمي.
بل إن الولايات المتحدة الحليف الأكبر لبريطانيا والمنافس الأكبر لأوروبا، ألقت بثقلها أيضا، وأعلن الرئيس باراك أوباما أنه سيزور بريطانيا في الشهر المقبل لحث البريطانيين للتصويت على البقاء في الاتحاد الأوروبي.
الرفض العالمي لخروج بريطانيا وصل أحيانا إلى حد الوقاحة المفزعة، حين قال وزير الاقتصاد الفرنسي إيمانويل ماكرون إن بلاده ستسمح للمهاجرين بالانتقال إلى بريطانيا بعد إنهاء الضوابط الحدودية الحالية، إذا أيد الناخبون البريطانيون الانسحاب من الاتحاد الأوروبي.
وأضاف أن باريس ستفتح ذراعيها للبنوك التي تتخذ من بريطانيا مقرا لها، والتي سترغب في الرحيل منها إذا خرجت من الاتحاد الأوروبي.
ورسم وزير المالية الألماني فولفغانغ شويبله صورة قاتمة حين قال إن خروج بريطانيا سيضر باقتصادها وبالاتحاد الأوروبي والاقتصاد والعالمي.
وحذر مارك كارني محافظ البنك المركزي البريطاني، الذي يفترض أن يبقى بعيدا عن السياسة، من أن الخروج من الاتحاد الأوروبي يمكن أن يؤدي إلى تداعيات خطيرة بالنسبة لوضع المركز المالي في لندن ولسوق العقارات البريطانية.
وقال مصرف أتش.أس.بي.سي إن الجنيه الإسترليني قد يفقد 20 بالمئة من قيمته وإن نمو الاقتصاد البريطاني قد ينخفض بما يصل إلى 1.5 نقطة مئوية العام المقبل إذا صوت البريطانيون لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي.
ووصل الأمر إلى أوساط لها تأثير معنوي، مثل انضمام عالم الفيزياء البريطاني ستيفن هوكينغ إلى أكثر من 150 عالما كبيرا، في الدعوة إلى البقاء في الاتحاد الأوروبي. وأكدوا أن الانسحاب منه سيكون “كارثة على العلم والجامعات في المملكة المتحدة”.
كل ذلك يؤكد هامشية الصخب الإعلامي الواسع، وأن الحقائق والأرقام وتفاصيل الجبهات التي ستخوض معركة الاستفتاء، تجزم أن خروج بريطانيا من التكتل الأوروبي يكاد يكون من المستحيلات.