احتفاء عراقي رسمي يرتقي بذكرى تأسيس ميليشيا عصائب أهل الحق إلى مرتبة الحدث الوطني

مشاركة أهم قيادات الدولة العراقية في إحياء ذكرى تأسيس ميليشيا عصائب أهل الحقّ، لم يعكس تغيّرا في طبيعة الميليشيات ودورها في إضعاف مؤسسات الدولة العراقية وتشتيت قرارها وتكريس فوضى السلاح في البلاد، بقدر ما عكس المكانة السياسية التي أصبحت تحتلها تلك الفصائل بعد أن باتت مشاركة بشكل مباشر في تشكيل الحكومات وتكوين التكتلات تحت قبة البرلمان.
بغداد - اتّخذ إحياء ذكرى تأسيس ميليشيا عصائب أهل الحقّ بعدا استثنائيا ارتقى بالمناسبة إلى مرتبة الحدث الوطني بفعل مشاركة أهمّ قيادات الدولة العراقية فيه، وما ورد في كلماتهم من ثناء على الميليشيا وتثمين لدورها في “حماية” الدولة العراقية و”بنائها”.
جاء ذلك على الرغم من السمعة السيئة للعصائب بسبب جرائمها بحق المدنيين أثناء مشاركتها في الحرب ضدّ تنظيم داعش، وانخراطها في قمع المحتجّين في انتفاضة سنة 2019، وكذلك بسبب انغماسها في أعمال التهريب عبر الحدود العراقية مع إيران وسوريا لمختلف أنواع المواد المحظورة بما في ذلك السلاح والمخدّرات، فضلا عن ارتباطها الواضح بالحرس الثوري الإيراني وإعلان قيادتها الولاء للمرشد الأعلى في إيران.
ولم تعكس مشاركة كبار المسؤولين في الدولة في إحياء الذكرى أيّ تغيير في سلوك الميليشيا أو في نهج قيادتها المكرّس لانفلات السلاح ووجوده خارج يد الأجهزة الرسمية، لكنّه عكس تعاظم مكانتها في تجربة الحكم بعد أن أصبحت تستند إلى كتلة برلمانية وازنة تحمل اسم “صادقون”، وبعد أن شاركت في تشكيل الحكومة الحالية عبر الإطار التنسيقي الشيعي وتحوّل زعيمها قيس الخزعلي إلى أحد أبرز حلفاء رئيس الوزراء محمد شياع السوداني.
وأقيم الجمعة في بغداد حفل كبير احتفاء بالذكرى الحادية والعشرين لتأسيس ميليشيا العصائب وذلك على الرغم من أنّ غالبية المصادر العراقية تقول إنّ التأسيس الفعلي للميليشيا يعود إلى ما بعد سنة 2005 عندما أعلن الخزعلي انشقاقه عن ميليشيا جيش المهدي التابع آنذاك لرجل الدين الشيعي مقتدى الصدر وتأسيس ميليشيا خاصة به بدعم وتمويل من إيران عندما فتُرت ثقتها بالصدر.
ويختار قادة العصائب تاريخا أقدم من تاريخ تأسيسها الفعلي بهدف الإيحاء بأنّهم واجهوا الاحتلال الأميركي بشكل مبكر ومستقل عن أيّ كيان آخر.
وشارك في الحفل إلى جانب الخزعلي الرئيس العراقي عبداللطيف رشيد ورئيس الوزراء محمد شياع السوداني ورئيس المحكمة الاتحادية العليا جاسم العميري ورئيس هيئة الحشد الشعبي فالح الفياض ورئيس تحالف الفتح زعيم ميليشيا بدر هادي العامري، ووزير التعليم العالي والبحث العلمي العضو في العصائب نعيم العبودي، ووزير الدفاع ثابت العباسي، ووزير الداخلية عبدالأمير الشمري، ورئيس ائتلاف دولة القانون رئيس الوزراء العراقي الأسبق نوري المالكي ونائب رئيس البرلمان محسن المندلاوي، ومستشار الأمن القومي قاسم الأعرجي.
وكال المشاركون في الحفل المديح للعصائب، ومثّلت محاولة جعلهم الميليشيا جزءا من نسيج الدولة قاسما مشتركا بين كلماتهم.
ووسّع الرئيس عبداللطيف رشيد من نطاق كلمته ليجعل من ذكرى تأسيس العصائب مناسبة للحديث عن التهديدات التي تحيق بالمنطقة والعراق موحيا بأنّ للميليشيا دورا في مواجهة تلك التهديدات.
وقال إنّ المنطقة تشهد تطورات خطرة من شأنها أن تهدد السلم الإقليمي والعالمي، ودعا القوى السياسية في العراق إلى العمل من أجل تغليب المصالح العليا للبلد والشعب وصيانة التجربة الديمقراطية والحفاظ على سيادة البلاد.
ولم يمنعه كونُ المناسبة هي عبارة عن احتفاء بكيان غير دستوري وجوده مخالف لقوانين البلاد، من الحديث عن “أهمية احترام الدستور والالتزام بتطبيق بنوده لأنها الطريق نحو العمل المؤسساتي السليم واحترام مؤسسات الدولة ومنع استغلال المواقع لأغراض شخصية أو فئوية ومحاربة الفساد بجميع أشكاله من أجل ترسيخ التجربة الديمقراطية في البلاد”.
وتنتمي عصائب أهل الحقّ على غرار العشرات من الميليشيات الأخرى إلى الحشد الشعبي المحسوب بشكل صوري ضمن المؤسسات الرسمية للدولة العراقية على الرغم من أنّ التبعية الفعلية للفصائل المشكّلة له هي لقادتها الأصليين مثل الخزعلي بالنسبة إلى العصائب، والعامري بالنسبة إلى ميليشيا بدر.
وقال رشيد إنّ “قوتنا جميعا هي في وحدتنا والانطلاق معا في ترسيخ الأمن والاستقرار وفي العمل الحيوي نحو ما يخدم مصالح شعبنا ويوفر له العيش الكريم، ومن الواجب أن ندعم جميعا الإجراءات والخطط التي تتبناها الحكومة للنهوض بالواقع الخدمي وللنظر بروح المسؤولية إلى مشاريع المستقبل وبرامج التطوير الاقتصادي والزراعي والصناعي”.
وخلال الأشهر القليلة الماضية برز بشكل واضح تناقض وجود الميليشيات مع مصلحة الدولة العراقية، عندما انخرطت فصائل مسلّحة مرتبطة بالحرس الثوري الإيراني في استهداف مواقع تمركز القوات الأميركية في سوريا والعراق الأمر الذي سبب حرجا كبيرا لحكومة السوداني إزاء الشريك الأميركي الذي ترتبط معه بغداد باتفاقيات رسمية وتجمعها به مصالح حيوية أمنية واقتصادية ومالية مباشرة.
رغم ما لميليشيا العصائب من سمعة سيئة في الضلوع في الفساد والتسلط على مشاريع الدولة.. فقد جعل الخزعلي الميليشيا التابعة له في مرتبة الوصية على محاربة الفساد وجلب الاستثمار وتوفير مناصب الشغل
وقال رئيس الوزراء من جهته إنّ عصائب أهل الحق ساهمت في دعم مسار الدولة عندما تصدّت لتنظيم داعش. وأضاف في كلمته بمناسبة ذكرى تأسيس ميليشيا العصائب إنّ الأخيرة “واجهت الإرهاب بكل بسالة وإقدام من أجل الحفاظ على العراق وأنها تسهم بدعم مسار الدولة بعدما تصدّت بالأمس إلى عصابات داعش الإرهابية، وشاهد العالم بأسره تضحيات العراقيين بقواتهم المسلحة بكل مسمياتها، بما فيها الحشد الشعبي ومجاهدوه”.
وأضاف “تخطو الحكومة مدعومة بإرادة برلمانية وشعبية واسعة، نحو إحداث التنمية المستدامة، وأن بلدنا ينتقل اليوم إلى مرحلة الإنتاج وتشييد البنى التحتية، وتحريك الاقتصاد، وخلق فرص العمل، ومواجهة التحديات وترسيخ السيادة”. وتابع قوله “نتحمل جميعا مهمة إنفاذ القانون وبناء صرح العدالة والمساواة والاستقرار المؤسساتي ولا بديل عن إعلاء كلمة الدولة وحماية الدستور، ونجاحنا أفضل وفاء لدماء الشهداء”.
ويعترف مراقبون لرئيس الوزراء العراقي الحالي بجهوده في محاربة الفساد وإعادة إطلاق التنمية التي كانت شبه متوقّفة في بلاده ومحاولته نسج علاقات اقتصادية وتجارية مثمرة مع عدّة بلدان من داخل الإقليم وخارجه، لكنّهم يقولون إنّ عمله يظل محكوما بوجود قوى طارئة على نسيج الدولة لا يمتلك سوى الاعتراف بوجودها كأمر واقع والتعايش معها، خصوصا وأنّها تمثّل المظلّة السياسية لحكومته التي لا يمكن أن تستمر دونها وهو ما يفسّر مجاملته لميليشيا العصائب.
وخلفت حكومةُ السوداني حكومةَ رئيس الوزراء السابق مصطفى الكاظمي الذي لم يكن على وفاق مع الميليشيات التي دخل معها في عدّة مناوشات عندما قام بمحاولات محدودة للجمها وضبط سلاحها.
وقال قيس الخزعلي بمناسبة الاحتفال بتأسيسه ميليشيا العصائب إنّ الأخيرة تمكنت من الوقوف ضد منهج تدمير الدولة في حكومة مصطفى الكاظمي، مشيرا إلى أنّه تمّ تجاوز التحدي والوقوف في وجه الولاية الثانية للكاظمي بتشكيل ائتلاف إدارة الدولة وحكومة الإطار التنسيقي.
وأضاف قوله إنّ “عصائب أهل الحق وفصائل المقاومة قدّمت التضحيات من أجل تحرير البلد وتحقيق السيادة”، مشيرا إلى أن “تضحيات الحشد الشعبي والقوات الأمنية وحركة عصائب أهل الحق كانت تهدف إلى تحقيق دولة قادرة مقتدرة”.
وأوضح أن هدف “التضحيات” التي قدمتها الميليشيا التابعة له “هو بناء دولة تحقق تطلعات الشعب العراقي”، مضيفا قوله “مرّت بنا تحديات خطيرة ونجحنا جميعا في تجاوزها”.
كما حرص زعيم العصائب على التأكيد بأنّ للميليشيا أدورا مستقبلية في “بناء” الدولة العراقية، قائلا “نضع ثقتنا بحكومة السوداني لإكمال مسيرة التضحيات، ونعاهد شهداءنا وشعبنا بالاستمرار في طريق بناء الدولة”.
كما وضع ضمن مهام الميليشيا تحقيق سيادة العراق والدفاع عنها. وقال في هذا السياق “هناك تحديات عديدة تواجه العراق أولها إخراج القوات العسكرية الأجنبية”، مشددا على “وجوب تحقيق السيادة النقدية بامتلاك العراق قراره الكامل بالتصرف في أمواله”.
ورغم ما لميليشيا العصائب من سمعة سيئة في الضلوع في الفساد والتسلط على مشاريع الدولة ونهب الأموال المخصصة لها، وفرض إتاوات على التجار وأصحاب المشاريع في المحافظات التي ساهمت العصائب في استعادتها من داعش، فقد جعل الخزعلي الميليشيا التابعة له في مرتبة الوصية على محاربة الفساد وجلب الاستثمار وتوفير مناصب الشغل، مشدّدا في كلمته على “ضرورة العمل على استرجاع ما نهب خصوصا في عهد الحكومة السابقة.. والمضي بتفعيل الاستثمار وتوفير فرص العمل للشباب العراقي”.